شاعر وكاتب لبناني
ألقت الشرطة المصرية القبض على الروائي الشاب أحمد ناجي وقادته إلى السجن مثلما يُقاد اللصوص والمجرمون، مخفوراً، يداه مكبلتان وراء ظهره. هذا الإذلال لا يقتصر على صاحب رواية «استخدام الحياة»، بل يشمل كل حمَلة الأقلام، هؤلاء الذين لا سلاح لهم سوى الكلمة، في ظل الخيبات والانتصارات الوهمية والحروب والمآسي. رُمي الكاتب في السجن من غير حق في الاستئناف، ما يعني انه سيقضي عقوبته وراء القضبان عامين كاملين. وبحسب خبراء، يبدو أن القرار تجاوز القانون المصري الذي أسقط بعد حركة الإصلاح مبدأ السجن بتهمة الرأي. لكنّ السلطة هي دوماً فوق القانون، كما علّمنا كافكا في روايته البديعة «المحاكمة».
لا يستحق أحمد ناجي السجن، فهو لم يقترف جرماً ولا هاجم السلطة أو الجيش ولا «تعامل» مع العدو الإسرائيلي، تطبيعاً أو استخباراتياً، ولم يثر حفيظة الأزهر تجديفاً أو كفراً… كل ما ارتكبه هو كتابة بضعة مقاطع إباحية اقتطعها الرقيب من سياقها وعزلها ليظهر فداحتها ويكيل للكاتب تهمة «خدش» الحياء العام، وهي تهمة تدعو إلى الهزء والسخرية بعدما فقدت معناها وباتت أشبه بإشاعة شعبية. تراقب السطلة «خدش» الحياء العام في الروايات والقصائد والخيال، أما في الواقع فهو لا يعنيها. لا يهم أن يرتكب مواطنون مكبوتون ومقموعون أفعال التحرش الجنسي الوقح في الشوارع والأحياء. لا يهم أن يُقدم شبان متهورون على اغتصاب فتيات أو نسوة يقعن ضحايا بريئات بين أيديهم. لا يهم أن يتّجر «قوّاد» بما يسمى «دعارة» سرية أو علنية… المهم ألا يكتب الروائيون والشعراء عن الحب والجنس وأن يمضوا في تخييلهم فيسيئوا إلى الأخلاق والسلوك الحسن ويلطخوا شرف القراء… تُرى هل سعى يوماً الرقيب المصري والعربي على السواء، للتعرف إلى القراء الذين يخاف على أخلاقهم وشرفهم ويخشى أن يمسهم سوء؟ يجهل الرقيب حتماً القراء الذين نصّب نفسه قائماً عليهم أو ولياً لأمرهم. يجهل الرقيب أن القراء ما عادوا ينتظرون الروايات والقصائد ليرووا ظمأهم إلى الجنس وحمأتهم الإباحية، فالجهاز السحري الذي يسمى «إنترنت» يوفر لهم ما لم يخطر في بالهم من أفلام وصور ونصوص جنسية عارمة وفضائحية… لم يعد القراء الباحثون عن المتع العابرة ينتظرون صدور رواية إباحية ليتشبعوا بها غرائزياً وعبر الخيال ، فهم يملكون «كنزاً» إلكترونياً من العجائب والغرائب.
ليست رواية «استخدام الحياة» رواية جنسية أو إباحية. بضعة مقاطع عرف الكاتب كيف يوظفها ليتعمق في واقعية الحياة التي يعيشها راويه، لا تكفي لتجعل من الرواية عملاً إباحياً يوجب على صاحبه السجن. هذه رواية خجولة إذا قيست بأعمال كتاب عالميين كبار مثل: هنري ميلر، جورج باتاي، ألبرتو مورافيا، نابوكوف وسواهم… رواية غرفة يلجأ إليها شبان وشابات في قلب القاهرة التي لا تنام، ليعيشوا بالسر حياة اللذة والحشيش هرباً من واقع أليم وعبثي ومفعم سأماً وخيبات…لم يؤذ هؤلاء أحداً، لم يسرقوا ولم يرتكبوا فضيحة، بل هم -كما يقول أحدهم- «متعلقون بالأمل» على رغم كل الإحباط. وكان ينقصهم أن يقرأوا قصيدة نزار قباني الشهيرة «خبز حشيش وقمر». ولا يتوانى احدهم عن إدراك أخطار الحشيش الذي ينهي حياة المدمن في أشهر. أشخاص جبناء، هزيلون، حائرون، لا قدرة لديهم على التغيير. وذكّرني عنوان الرواية برواية الكاتب الفرنسي جورج بيريك «الحياة طريقة استخدام»، الحياة التي تمنحنا الحرية في استخدامها، شرط أن تظل حياتنا، الخاصة والشخصية.
كان في إمكان الرقابة المصرية منع الرواية ومصادرتها، كما يتم الأمر دوماً مع الكتب الجريئة، وكانت الصدمة لتغدو أقل وقعاً، أما أن يعمد الأمن إلى معاقبة الكاتب سجناً، فهذا ما لم يكن في الحسبان. وليس أصلاً في حسبان أحد أن يعمد الأمن المصري إلى سجن كاتب بتهمة الإباحية، الإباحية الخفيفة، الإباحية الواقعية النابعة من حقيقة معاناة الجيل الشاب وتخبطه في الفراغ واللامعنى.
لا أدري ما حال أحمد ناجي الآن وراء القضبان. إنها أوقات قاسية ولاإنسانية يكابدها في عالم مغلق ليس عالمه بتاتاً. يُرمى الكاتب بين اللصوص والمجرمين لارتكابه معصية الحرية، معصية محاكاة الواقع بجرأة وفضح الأمراض السرية التي يعانيها جيل راهن وجيل سابق وجيل سوف يأتي. ليت أحمد ناجي تمكن من الهرب لحظة القبض عليه، حاول ولم يفلح. مثل هذا الواقع السلبي تماماً لا يليق بنا إلا الهرب منه.
المصدر: صحيفة الحياة