كاتب كويتي
الباحث الاقتصادي أو العالم في هذا المجال، شخص مرتاب على الأغلب في احتمالات واتجاهات تطور الأمور خلال السنوات القادمة، لاسيما إن كان متشائماً من مسارها الحالي. غير أن تفاصيل وملامح أي اقتصاد تبدو أكثر وضوحاً مع تطور الاقتصاد وعلومه. ودراسة «تاريخ الاقتصاد» أسهل من التنبؤ بمستقبله.
نحن لم نعايش في السنوات الأخيرة زوال التجربة الاشتراكية وانتشار «الاقتصاد الحر» وانفتاح الأسواق فحسب، بل دخل العالم في تجارب مختلفة.. خاصة في ظل العولمة. وترافق ظهور مصطلح العولمة مع موجة حادة من النقد والإضرابات شهدتها اجتماعات البنك وصندوق النقد الدوليين في سياتل وبانكوك. والحقيقة، كما يرى الباحث السوري الدكتور رضوان زيادة، لم تذهب مظاهرات الاحتجاج تلك سدى، حيث «أبانت عن ظهور بُنى اجتماعية متقاربة بين الشمال والجنوب، فالعامل أو المزارع في الدول الأكثر غنى أو دول الشمال يبدو أكثر قرباً إلى نظيره في دول العالم الثالث أو دول الجنوب من انتمائه إلى طبقة اجتماعية محددة ومحصورة بقطره الوطني. نحن إذن إزاء ظاهرة ذات حوامل إعلامية واقتصادية وسياسية جديدة». («شؤون عربية»، العدد 120,2014).
ما أهم التحولات التي غيرت النظام الاقتصادي العالمي خلال العقود الأخيرة، يتساءل الدكتور إيهاب الدسوقي، الأكاديمي البارز في مجال الاقتصاد والإدارة، ويراها في ست محطات: تحرير أنظمة التجارة الخارجية، بزوغ التكتلات الاقتصادية العملاقة، تحرير الأنظمة المالية والنقدية، التحول نحو آليات السوق، التطور التكنولوجي الهائل، وأخيراً توافر المعلومات والشفافية. («السياسة الدولية»، أبريل 2015).
المحطة الأولى نجمت عن «جولة أوروجواي» التي أدت إلى تحول جوهري في أسس النظام التجاري الدولي ووضع قواعد جديدة لها وتخفيف القيود الجمركية إلى حد كبير، فازدادت حدة المنافسة وانتشرت العولمة. وفي الثانية الجماعة الأوروبية ابتداءً من يناير 1994 وأصبحت تضم 28 دولة بخمسمائة مليون مستهلك وإنتاج يقارب 18 تريليون دولار. وفي أميركا الشمالية وقعت اتفاقية «نافتا» التي تستحوذ دولها على 65% من واردات العالم. وفي الثالثة، أي «تحرير الأنظمة المالية والنقدية»، عمل التطور المالي على توحيد أسواق رأس المال وأسواق النقد والانتقال الهائل للثروات بين الأسواق العالمية. وفي مجال «التحول نحو آليات السوق»، حدث تحول واضح نحو الليبرالية الاقتصادية والاعتماد على آليات السوق في معظم دول العالم، حيث ترسخ هذا الاتجاه بعد تفكك المعسكر الاشتراك. وتبدو خامسة المحطات واضحة للعيان غنية عن الشرح، ألا وهي «التطور التكنولوجي الهائل». فالعالم كله تقريباً يعايش منذ بداية القرن الحالي على وجه الخصوص، أو منذ منتصف الثمانينات «ثورة تكنولوجية لا تقل آثارها عن نتائج الثورة الصناعية إبان ظهورها». ويمكن إبراز أهم آثار هذه الثورة، يضيف الباحث، في انخفاض أهمية الموارد الطبيعية والمواد الخام، «حيث إن كمية المواد الخام المطلوبة لوحدة المنتج الصناعي لا تتعدى حالياً خمس الكمية التي كانت مطلوبة عام 1900. وقد أدى ذلك إلى ظهور العديد من المواد المخلّقة من عناصر رخيصة ومتوافرة، مثل السليكون، كما ارتفعت القيمة المضافة للعمل البحثي والتصميم، وأبرز مثال على ذلك إحلال الخيوط الصناعية محل الخيوط الطبيعية، وعدد من المعادن التقليدية». وتنوعت السلع تنوعاً هائلاً، كما تمت تجزئة إنتاج السلعة الواحدة بين عدد كبير من الدول، حيث تقوم كل دولة بإنتاج جزء أو أكثر من السلعة، وهو ما يسمى intra-frim، وظهرت سلع جديدة مرتبطة بالتطور التكنولوجي لم تكن متداولة من قبل، وانتشرت التجارة الإلكترونية عبر الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) محدثةً ثورةً حقيقية في عمليات البيع والشراء وتداول السلع وغيرها.
وأخيراً، وبسبب «توافر المعلومات والشفافية» حدثت تغيرات اقتصادية عالمية هائلة وبخاصة في حجم وسرعة تجميع المعلومات وتداولها بين الدول والأفراد. وقد تلتقي الأسواق المحلية وتندمج كلها في سوق واحدة، وأصبحت عملية التبادل تتم في ضوء الأسعار السائدة عالمياً، وربما ارتفع سعر بضاعة رخيصة ورخص سعر بضاعة أخرى، وقد تؤثر مستويات الأجور هنا وهناك. فعلى سبيل المثال، «شرائح الكمبيوتر، التي تستخدم في صناعة الوسائد الهوائية لسيارات BMW، تُصنع في بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية، وتصدر للتغليف في تايوان، ثم يتم تصديرها إلى ألمانيا لتوضع داخل السيارة». غير أن الأسواق العربية خاصة امتلأت، للأسف الشديد، بالبضائع الرديئة والمرتجلة الصنع».
ومن جانب آخر مهدت الثورة الإلكترونية في مجال التجارة لتحريك أكثر من تريليون و300 مليار دولار يومياً بين أسواق رأس المال العالمية، ولم تعد الشركات أو الأفراد ملتزمين بمعدل الفائدة المحدد من قبل البنوك المركزية في دولهم، حيث بإمكانهم تداول رؤوس الأموال مع أي سوق من داخل دولهم وخارجها.
وكانت لذلك كله تأثيرات سياسية منها تقليص قدرة الحكومات على حجب المعلومات الصحيحة عن مواطنيها، وانخفاض سرية هذه المعلومات في التطبيق العملي.
والآن، من يستطيع التنبؤ بدقة حول التطورات الاقتصادية القادمة.. خلال نصف قرن؟!
المصدر: الاتحاد