كاتبة سعودية
في مرحلة ما من الطفولة كنا نعتقد بأن الأبطال الخارقين، يأتون من كواكب أخرى ليعيشوا بيننا على الأرض، ويقضوا جل وقتهم متخفين. وبكل براءة كان لدينا تلك الثقة، التي لا تجعلنا فقط متأكدين بأننا سنلتقي بهم يوماً، بل وسيقتحم أحدهم المكان، حين نكون في ورطة أو مواجهة موقف صعب لينقذنا منه، ثم يمنحنا جزءا من قواه الخارقة ليحمينا من الأشرار. وحين بدأنا نكبر، تعمد الكبار تبديد تلك الفكرة من مخيلتنا يوما بعد يوم، حيث كان أمراً صعباً أن نقتنع بأن وجودهم ليس حقيقة في البداية، ومع الوقت انطفأت كل تلك الأحلام الجميلة المؤجلة، التي كنا ننتظر تحقيقها تباعاً، إلى أن تلاشت تماما بعد أن كبرنا. ولكن دون أن تنتهي عند الطفل القابع داخلنا، فما إن يتم الإعلان عن فيلم جديد لسوبرمان أو باتمان، حتى نهرع لنلتقي ببطلنا الخارق سراً في تلك المدينة الخيالية، التي تُحرك إحساسا معبقا بشغف الطفولة، فيهمس الطفل داخلنا أثناء العرض “ليتك بالخارج”.
ومع أن الوجه البشع الذي أصبح يطل علينا كل يوم، من واقع الحروب والدمار، يبعث على الاكتئاب والتعاسة، إلا أنه ما زال لدي تلك القناعة بأن البطل الحقيقي، يعيش معنا على هذه الأرض، ولكن لا نستطيع رؤيته بوضوح، لأن قواه الخارقة ليست كما نتصور.
“دوبري دوبريف” مسنٌ نحيل تقوس ظهره بشدة. فقد جميع أفراد أسرته، ومعظم قدرته على السمع أثناء الحرب العالمية الثانية. لم يسمع عنه الكثير، ولكن قصته تستحق أن تُروى. استطاع ذلك الرجل، أن يُرينا كيف يمكن أن يكون عليه البطل الخارق، على الرغم من عدم امتلاكه لأي قوى خارقة. بل يحمل في صدره، كمية من الرحمة تعادل في قيمتها كنوز الدنيا. اعتاد الجد “دوبريف” قطع 25 كم يومياً سيرا على الأقدام، من قريته في (بايلوفو) إلى مدينة صوفيا في بلغاريا، مرتدياً نفس الملابس الرثة والحذاء الجلدي المهترئ المصنوع يدوياً، ليصل “لكاتدرائية ألكسندر نيفيسكي”، ليمضي نهاره في التسول حولها، بوجهٍ تعلوه ابتسامة جذابة تشع حناناً للمارة، أسر قلوب الناس بهيئته (شعره الطويل ولحيته البيضاء الكثة وظهره المقوس)، ومع ذلك كان لا يكل طوال نهاره من مد علبة معدنية، لجمع ما يجود به العابرون من نقود. بعد تسوله بـ9 سنوات، قُدر ما تم جمعه بـ40 ألف يورو، أي ما يعادل 168 ألف ريال تقريباً، فتبرع بكل المبلغ للكاتدرائية، التي كانت ترعى الأيتام، ومرت بفترات عجزت فيها عن الوفاء بدفع فواتيرها. ليصبح بذلك المتسول الذي لا يمكن أن ينساه سكان مدينة صوفيا.
كان صعباً عليه تقبل فكرة أن يتعرض الأيتام للحرمان، وأن يعلم بأمرهم دون أن يمد لهم يد العون. والمثير أن الرجل، لم يفكر بأخذ شيء لنفسه من تلك الأموال التي جمعها، فقد تمكن طوال عقود من الزمن، أن يعيش بما يقارب الـ 100 دولار شهريا. ولن يضره أنه استخدم جزءا مما جمعه، ليشتري لنفسه ملابس أو حذاء جديدا على الأقل، أو ليغير بها حياته، بدلا من أن يقضي بقية عمره يأكل ويغتسل في الشارع. ولكنه فضل أن يقوم بكل ذلك الخير، دون أن يحمل في صدره ذرة من الأنانية، التي تعد جزءا من تركيبة البشر. فأي نوايا طيبة تلك التي يمكن أن تسمو بها نفس الإنسان، وتمنحهُ تلك القدرة على العطاء والتحرك داخلها بتلك الخفة. ذلك المُسن، لم تكن لديه قوى خارقة، بل قدرة غير اعتيادية، على الرغم من وطأة ظروفه الصعبة، ولأن “مشاهير الهبل” تصدروا المشهد الإعلامي، انحسر الضوء عن الأبطال الحقيقيين، وأصبحنا لا نكتشفهم إلا بالصدفة، لتجردهم من حب الذات، وعدم اكتراثهم بمسألة الإعلان عن أنفسهم، لينالوا شيئاً من الثناء أو الإطراء. بل ينمو داخلهم ذلك الإيمان، بأن ما يقدموه للآخرين من خدمات أو مساعدات، يعد من واجبهم الإنساني، وهذا ما يستمدون منه سعادتهم، التي لن يفهم معناها أو قيمتها الأنانيون حول العالم.
منح المال لأهداف إنسانية نبيلة، فيها رسالة كبيرة وواضحة، ولكن أن يكرس مسن بلغ من العمر أرذله (102) عام، جهده ووقته وحبه وجميع الموارد التي يمتلكها، لهو أعظم الهدايا التي من الممكن أن تلهمنا في التعبير عن الرحمة. فإن كنا اليوم بحاجة إلى نماذج جديدة، تترجم أبعادا أخرى للبذل والإيثار والتضحية، فالجد دوبريف يعد أحد تلك النماذج. ليس لأنه تبرع فقط، بل لأنه يحمل في قلبه كمية من الرحمة لا تعادل بقيمتها كنوز الدنيا. ولك أن تتخيل كيف يمكن أن يصبح هذا العالم لو كان لدينا أكثر من شخص تحركهم رحمة مثل تلك.
لنتفق على أن الأبطال الخارقين حقيقيون، ولكن يعيشون بيننا مجهولون، وإذا لم نتمكن من التعرف عليهم، فهذا لأنهم لا يبدون في الواقع كما كنا نتصور.
المصدر: الوطن