في رواية دستوفسكي الشهيرة «الأخوة كارامازوف» يتحاور إيفان وأليوشا وهما شقيقان، بخصوص عذاب الأطفال، فيقول إيفان لشقيقه ما معناه: القصاص أو العقاب عندي لا يساوي دمعة من عين طفل، أوَتقول لي إن الجلادين سوف يتعذّبون في الجحيم؟ ويتساءل ولكن ما جدوى ذلك؟ إنه يطلب الغفران وزوال العذاب.
استذكرتُ ذلك بمناسبة صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي اللاّعنفي جان ماري مولير «نزع سلاح الآلهة: المسيحية والإسلام من منظور فريضة اللاّعنف» المترجم إلى اللغة العربية من قبل جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان في بيروت، وهو ما أعادني إلى حوار دار بين الزعيم اليساري الجزائري بشير الحاج علي وشاب معتقل معه، فيقول الحاج علي: كنت كلّما أفيق من المغطّس أسمع شاباً بجواري يقول سنعذّبهم مثلما عذّبونا، وسنستخدم جميع الوسائل لإذلالهم مثلما حاولوا إذلالنا، فما كان منه إلاّ أن يجيبه على الرغم من أنه خارج لتوّه من حفلة تعذيب: ولكن ما الفرق بيننا وبينهم إذا فعلنا ذلك؟ نحن نريد كنس التعذيب وإنهاءه كظاهرة لا إنسانية وإلى الأبد، وهو ما يسميه دستوفسكي «التناغم الأبدي».
عشية إطلاق كتاب «نزع سلاح الآلهة» اجتمع مؤلفه الفرنسي المسيحي مع رجلي دين مسلمين لبنانيين، فقال الشيخ حسين شحادة: لماذا اخترت عنواناً للكتاب «نزع سلاح الآلهة»، ألم يكن ممكناً اختيار عنوان «نزع سلاح الشياطين» بدلاً من الآلهة؟ فأجابه مولير على الفور ودون لحظة تأمل: ولكن الآلهة، هم الشياطين على الأرض، فالإله واحد، وهو الإله الحقيقي المنزوع السلاح، لأن الله محبة والمحبّة لا تجتمع مع العنف في قارب واحد.
أما إذا نسبنا محبتنا إلى الآلهة فهذا خطأ فظيع، لأن الآلهة هم من صنع البشر، أما الله فهو المطلق، الخير، السلام، التسامح، واللاّعنف. الله هو الذي خلق الإنسان ودوداً، عاقلاً، مسالماً، وحيثما وجد الإحسان وجد الله ووجدت المحبّة، وحيثما وجدت الطيبة حضر الله، وهدف جميع الأديان نشر الحب والرحمة والسلام، وليس العنف والغلظة والانتقام والقمع والإرهاب والحروب، وأضاف: إن الديانات ليست بالنصوص، بل بالعقيدة والمقاصد.
استكمل السيد علي فضل الله، هذا الحوار المعمّق، حول مفهوم اللاّعنف، حيث قال: إنه أقرب إلى الرفق، والرفق حسب القواميس يأتي من الرفقة، أي التواصل والمودّة والمشترك الإنساني، والشراكة، ومثل هذه المفاهيم وجدتها أيضاً، بخصوص مفهوم التسامح لدى الفيلسوف الفرنسي فولتير، الذي قال عنه بأنه الرفق والصبر، أما التعصّب فلا ينتج إلا منافقين وعصاة، وبما أن البشر خطّاؤون فعلينا أن نسامح بعضنا بعضاً.
لقد توصّلنا كل بطريقته إلى اللاّعنف، حتى وإن جئنا إلى فريضته أو فضيلته من مواقع ومنابع مختلفة بما فيها عنفية، لكننا اهتدينا إليه بعد تجارب مريرة عشناها وعانينا منها مثلما عانت منها شعوبنا وأوطاننا، وآن الأوان للبحث عن اللاّعنف في تراثنا وتعميمه، وليصبح هو القاعدة وليس الاستثناء، حتى وإنْ كنّا لا نستطيع إلغاء العنف من حياتنا.
وصديقنا الفيلسوف اللاّعنفي الذي يعتبر الأكثر شهرة في العالم المعاصر، ونعني به مؤلف الكتاب جان ماري مولير، انتقل إلى فريضة اللاّعنف، حين أريد له أن يقاتل في الجزائر، مع الجيش الفرنسي ضد الجزائريين الذين ذاقوا مرارة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي ما يزيد على قرن وثلاثة عقود من الزمان، فرفض وامتنع وسجن (لمدة ستة أشهر) وأقصي، وهكذا تكوّنت لديه قناعات بأهمية الانخراط في العمل اللاّعنفي الذي كرّس له حياته منذ الستينات وحتى اليوم. إن كتابه «نزع سلاح الآلهة» هو دعوة للتأمل في ماهية الخير والشر، وقد جاء تتويجاً لعمل معرفي وحركية ديناميكية طوال ما يزيد على خمسة عقود ونصف من الزمان، وهو كتاب مرجعي تأسيسي، خصوصاً أنه شامل، لاسيّما بعد كتابه «قاموس اللاّعنف».
الفريضة أو الفضيلة التي يريد مولير تعميمها تمنحنا هذه القدرة الاستثنائية، من الحب والتطهّر والروحانية الإنسانية، وتقرّبنا من بعضنا على نحو يتّسم بتعزيز المشترك الإنساني، سواء كنّا من أتباع الديانة المسيحية أو من أتباع الديانة الإسلامية، وسواء كنّا مؤمنين أو غير مؤمنين، ومتدينين أو غير متدينين، لكننا نجتمع تحت خيمة اللاّعنف ذات الطبيعة الإنسانية.
وكان الروائي الروسي تولستوي، صاحب رواية «الحرب والسلام» المنشورة لأول مرة بين عامي 1865 و 1869، هو من دعا إلى عدم مقاومة الشر بالعنف، وأراد في كتابه «ما هو إيماني؟» الصادر عام 1884 القول: لا ترتكب عنفاً أبداً، بمعنى آخر، لا ترتكب أي فعلة مناقضة للمحبّة، أي أن الانتقام وسيلة سيئة مهما كانت المبررات. وقد تعزّزت أفكار اللاّعنف لدى تولستوي عندما حدثت الحرب الروسية- اليابانية في العام 1904 التي أدت إلى انتفاضة ثورية ضد حكم القيصر في العام 1905، لكنها لم تنجح وتمكّن القيصر من قمعها.
لقد كانت الحرب المتغير الكبير الذي استوحى منه تولستوي روايته الذائعة الصيت، وقد كانت مشاهد حرب الثلاثين عاماً في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، مقدمة للحرب الروسية – اليابانية، التي تحدّث عنها باعتبارها حرباً بين مسيحيين وبوذيين، يقتل أحدهما الآخر في حين أن المسيحية والبوذية، لا تدعوان للقتل وتحرّم ديانتهما قتل البشر، بل إن البوذية تحرّم حتى قتل الحيوانات.
لقد رفض تولستوي طاعة أوامر الدولة التي تفضي إلى العنف، لأنه غالباً ما يكون عنفاً ظالماً، وكان يقول لا للجيش الذي يلقّن العنف لقهر الشعب. وترك تولستوي تأثيراً كبيراً لدى المهاتما غاندي، وقد كتب الأخير عنه بمناسبة مئويته في العام 1928 نصاً مؤثراً حين قال: «كان أكثر رجال عصره صدقاً. اتّسمت حياته بجهد دؤوب محموم للبحث عن الحقيقة، ولوضعها موضع الممارسة بمجرد العثور عليها… إنه أعظم رُسل اللاّعنف الذين شهدهم عصرنا الحالي».
إن تحقيق السلام حسب تولستوي لا ينبغي أن يفرض إلاّ بوسائل سلمية، ولا يريد من الأذلة المسحوقين (الضعفاء) سفك دماء الأقوياء. أراد لهم التمسّك بالتمرّد السالب، ورفض طاعة المتسلّطين الظالمين، وإذا تمكّن ملايين الفقراء من غير عنف، ومن غير محاكاة لبطش المتسلّطين، ومن غير ثورة مأساوية على الطريقة الغربية، من صرف قلوبهم وأذرعتهم عن فعلة الظلم والحرب والقتل، يومذاك سوف تنحلُّ سلطات الكذب والقهر البالية من تلقاء نفسها.
المراسلة بين غاندي وتولستوي عبّرت عن القناعة الأخلاقية المشتركة، لاسيّما أن تراث كل منهما غنيّ وعميق. وقد فهم تولستوي الأهمية العميقة بين عدم مقاومة الشر بالعنف، وبين الضمير والعصيان وعدم التعاون مع المؤسسات الرسمية التي تتحمل مسؤولية القهر، وقد استلهم حكيم روسيا ذلك من تراثه الديني المسيحي مثلما استلهم حكيم الهند ذلك من تراثه الديني البوذي.
وإذا كان غاندي قد كتب عن تولستوي في مئويته، فقد كتب البابا بولس السادس رسالة إلى رئيس جمهورية الهند بمناسبة مئوية غاندي في 22 أغسطس/آب 1969 جاء فيها «كان لدى غاندي فكرة سامية عن الكرامة الإنسانية وحس ثاقب بالعدالة الاجتماعية، وبحماسة متّقدة وإدراك بصير بالخير المستقبلي لشعبه، عمل بلا هوادة للوصول إلى أهدافه غارساً دوماً في تلاميذه مبدأ اللاّعنف المثير للإعجاب». تلك هي رسالة الأب الروحي للمسيحيين إلى رمز الهند وحكمتها غاندي.
تلك دعوات رُسل اللاّعنف، أي المقاومة السلمية السلبية كما تسمّى، بمعنى عدم الرّد على العنف بالعنف وذلك ليس استسلاماً، بل مقاومة باللاّعنف، بالصمت والامتناع عن المشاركة في الحروب أو الانخراط في أعمال العنف أو التمرّد على أوامر الدولة ورفض دفع الضرائب والاحتجاج والتظاهر وصولاً للعصيان المدني، وهو ما اتبعه مارتن لوثر كنغ في حركته للمطالبة بالحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وما قام به من نشاط تسامحي ولا عنفي نيلسون مانديلا زعيم جنوب إفريقيا.
إن المقاومة تلك حسب مولير قادرة على تغيير العالم الذي أراد فيه أن تكون «الآلهة» طيبة قبل أن تكون قويّة، وطالب بإلغاء ما يبرّر العنف والقطيعة ضد ما يدعو إليه، والدعوة إلى أخلاقيات موحّدة للعمل العالمي اللاّعنفي في المسيحية والإسلام، وفي ذلك دعوة ليس لقبول الحق في الاختلاف، بل لرفض التشابه والتماثل والتطابق، لأنه ليس من طبيعة الأشياء.
عبدالحسين شعبان:
باحث وكاتب عراقي يقيم في بيروت
المصدر: http://www.tahawolat.net/