كاتب إماراتي
بقلم: ياسر حارب
قرأت قبل أيام هذا السؤال الفلسفي على تويتر: «إلى أي الضفتين ينتمي الجسر؟ أم أنه ينتمي إلى نفسه؟».
كنتُ حينها أقود سيارتي على أحد الجسور في دبي، توقفتُ على كتف الطريق، وحدقتُ في الجسر بضع دقائق، فأدركتُ أن الجسر ينتمي للأشخاص الذين يعبرونه؛ فالهدف من وجوده هو إيصالهم بين الضفتين، ولولاهم لما كانت له حاجة. يُقال إن الإنسان ينتمي إلى من يحتاج إليهم، ولكنه أحياناً ينتمي إلى من يحتاجون إليه أكثر؛ كالأم التي تعطف على أطفالها، لأنها تحتاج إلى ذلك العطف أكثر منهم أحياناً.
عندما تعبرنا الأشياء فإننا نشعر بخفة كبيرة، لأنها تحمل معها شيئاً من الثقل الذي يضغط على كواهلنا، ولذلك فإنها تمنحنا عمراً أطول، أو ربما، أقل شقاءً.
كل الأشياء الباقية ثقيلة، ولذلك يشعر الإنسان بالراحة عندما يسافر، ولا بد من رحيل من نحب حتى نتعلم الاشتياق إليهم. الاشتياق غريزة وجدانية، لا تثقل إلا عندما تتراكم، مثل القطن، فهو على الرغم من خفته فإنه لا يشكل ثقلاً إلاّ بكميات كبيرة.
أما الأشياء الباقية فإنها تشبه الحديد، مهم وحيوي، ولكن كمية قليلة منه قد تقصم ظهورنا.
النجاح يشبه الجسر، معلق بين ضفتين، يبدو المنظر من فوقه رائعاً، ولكن إطالة الوقوف عليه تحيل الأشياء الجميلة إلى عادية؛ ولذلك فإن الإنسان في بحث دؤوب عن جسور أخرى، ليس بالضرورة أن تطل على مناظر جميلة، ولكن يكفي أن تمنحه المتعة بالوقوف بين ضفتين. الوقوف بين ضفتين هو العمل الأقصر وقتاً في حياتك والأكثر تأثيراً فيها.
الجسور المطلة على الأماكن الخالية هي أجمل الجسور؛ فالأماكن الخالية تملؤنا كثيراً، إنها الأشياء الوحيدة التي لا تعبرنا فقط، بل تعيد ترتيب ما في داخلنا، وتشجعنا على الاستمرار.
لا يكمن سحر الصحراء في الواحات التي تسكنها، ولكن في قدرتها على دفعنا للرحيل.
الحياة الحقيقية لا توجد على أرفف المحلات التجارية؛ ولهذا فإن أجمل الأيام هي التي تعبرنا دون صخب، فتصبح توقعاتنا منها بسيطة، وآمالنا بها عظيمة، عندها، تصير الحياة طريقاً ريفياً خالياً من الازدحام.
جلستُ مرة مع مجموعة من السياسيين ومتخذي القرار حول العالم، كانوا يتحدثون عن مصائر شعوب الأرض، ويُكررون ما يقال في وسائل الإعلام، وعندما سألني أحدهم عن رأيي قلت له: «هل يمكن لأحدكم أن يقول هذا الكلام في بيته، وهو جالس على العشاء مع أسرته؟» ردَّ نافياً، سألته عن السبب فقال: «لأن ذلك لا يعنيهم»، قلت له: «بالضبط، فالأشياء التي تعنينا هي التي نقولها ونحن نرتدي ملابس النوم».
الأشياء الخالدة ليست تلك التي تبقى أبداً، لكنها التي لا تُنسى أبداً. بعض الأشياء الجميلة تخنقنا عندما تطول، كالضحك، الذي يكمن سحره عندما يأتي فجأة. الضحك هو استراحة قصيرة بين حياتين.
قال لي طبيب مرة إن بعض الناس يعرفون ما يناسبهم من طعام وما يسبب لهم حساسية أو ألماً في المعدة؛ لأنهم يراقبون حياتهم جيداً، ولا يفوتهم الانتباه إلى تأثير الأشياء عليهم.
ظننتُ أنني استوعبت حديثه، لكنني لم أفهمه إلا عندما أصابتني حساسية جلدية وعجزتُ عن معالجتها، رغم كل الأدوية التي استخدمتها، تذكرت كلامه وبدأت أراقب طعامي، وأسأل عن نوع مسحوق الغسيل الذي نستخدمه في البيت؛ حتى بدأتُ أتعرف على الحياة المنزلية حولي، بتفاصيلها التي كنتُ أظنها يوماً غير مهمة.
كان المتصوفة شغوفين بقراءة الإشارات من حولهم، ولم أكن أعلم ماذا تعني الإشارات، هل هي برق في السماء، أم صوت داخلي، أم سقوط مزهرية من على الرف، كلما فكرت في أمر ما! لم تكن أياً من ذلك، بل هي الأشياء التي تشتت انتباهنا عما يشغلنا القلق من المستقبل، فتعيدنا إلى دائرة الحاضر، وإلى الانغماس في اللحظة الآنية بمصاعبها ومكافآتها؛ كضحكة طفلتي، وكاختيار مسحوق غسيل جديد، وكالحساسية الجلدية التي ألمت بي. كانت تلك إشارة قادتني إلى التواصل مع أسرتي أكثر، خصوصاً أمي التي زرتها لأخبرها بما ألمّ بي، فأعدت لي دواءً شعبياً، لم تكن مكافأتي في الدواء، ولكن في الحديث الجميل الذي دار بيننا في تلك الليلة. لقد كان ذلك الحديث بمثابة عودتي إلى مسقط رأسي «حضن أمي» حيث شعرتُ، ولأول مرة منذ سنوات، أنني في أمان تام.
لا أدري لماذا كان حديث أمي في ذلك المساء حافزاً لكي أعود للكتابة الأدبية بعد انسدادٍ ذهنيٍّ وشعوريٍّ، ولكنني أدركتُ الآن بأن الأشياء التي تعبرنا هي اللحظات الأجمل في حياتنا. إن الأشياء العظيمة ليست التي تعبرنا، بل التي تَعْبُرُ بنا.
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق بتاريخ 17 ديسمبر 2011