باريس – غسان شربل – الحياة
سألت الأخضر الإبراهيمي: «هل أزعجك إذا سألتك عن فشلك في سورية؟». أجاب: «لا أبداً، فأنا قد فشلت. الموضوع الشخصي ليس مهماً. الأخطر هو أن المجتمع الدولي فشل في إخراج سورية من محنتها وأن السوريين أيضاً فشلوا في التفاهم على صيغة توقف اندفاع بلادهم نحو الصوملة بكل ما تعنيه».
وحين استولى تنظيم «داعش» على الموصل تذكرت تحذيرات الإبراهيمي المتكررة من أن استمرار النزاع في سورية قد يجعل منها مصدر خطر على جيرانها وعلى دول أبعد منها. أيقظت مشاهد الحرب السورية ومجرياتها جمر النزاعات العراقية، وها هو العالم العربي يراقب خائفاً تمزق خريطتين على وقع سقوط التعايش والحدود.
لا النظام السوري أحب المبعوث الدولي والعربي، ولا المعارضة أحبته. كان النظام يريد من الإبراهيمي اعتبار ما يجري في سورية مؤامرة خارجية فقط، ولم يكن معنياً بجنيف ولا بمرحلة انتقالية، وكانت المعارضة تريد من الإبراهيمي أن يحقق ما عجزت عن فرضه ميدانياً، وهو إقناع الرئيس بشار الأسد بالرحيل أو التنازل عن سلطاته. لهذا تعرض الإبراهيمي لحملات من أكثر من اتجاه.
حاول الإبراهيمي نسج مظلة دولية فوق جهوده، لكنه سرعان ما تأكد أن بيان «جنيف1» سطحي، وأن المسافة بين التفكيرين الأميركي والروسي لا يمكن ردمها. وحاول التفكير في مظلة إقليمية فاكتشف عمق الشرخ القائم. لم يتمكن من إنهاء النزاع ولا حتى من تخفيف الآلام، فقد قتل خلال مهمته 138 ألف شخص ودمرت مدن وقرى وشرد ملايين السوريين داخل بلادهم وخارجها. ربما لهذا السبب حاول الإبراهيمي الاستقالة قبل سنة لكن ضغوطاً مورست عليه فبقي ولكن من دون آمال فعلية.
سألت الإبراهيمي عن مهمته والصعوبات واللقاءات التي عقدها مع معنيين بالملف أو مؤثرين فيه. عقدنا ثلاث جلسات، ما أتاح المجال أيضاً للسؤال عن تجربته في العراق ومسائل أخرى، وهنا نص الحلقة الأولى:
> لماذا قبلت في سورية مهمة بدأت في وصفها بأنها شبه مستحيلة؟
– استغرب موقف من يطرح مثل هذا السؤال. حين طرحت المهمة على كوفي انان سألني عن رأيي فاجبته بما معناه «اغمض عينيك وقل نعم». الأمم المتحدة لا يمكن أن تستقيل من دورها لأن الأوضاع صعبة ومعقدة أو لأن احتمالات الفشل موجودة أو كبيرة أو غالبة. حين أقدم مثل هذه النصيحة لأنان فمن البديهي أن اتصرف في ضوئها حين يعرض الأمر علي.
هل يحق لشخص مثلي أن يرفض مهمة اذا كان هناك أمل ولو شديد التواضع بمساعدة الشعب السوري على حل أزمته أو تخفيف آلامه؟ كنت أعرف أن المهمة بالغة الصعوبة وأن النجاح غير مضمون على الاطلاق لكنني تعاطيت مع المهمة كواجب. الأمم المتحدة لا يمكن ولا يجوز أن تدير ظهرها لسورية. الأمر نفسه وأكثر بالنسبة الى الجامعة العربية. حين تكون الطريق سهلة ومعبدة يمكن العثور على كثيرين. حين تكون شاقة يجب التعاطي مع المهمة كواجب وبعيداً من هواجس الفشل الشخصي أو الحملات الإعلامية والافتراءات. لم يكن أمامي أنا المكلف من الأمم المتحدة، وأنا العربي، غير أن أحاول حتى ولو كان شعوري أن الأمر ليس شبه مستحيل بل هو مستحيل.
> كنت تعتقد إذاً أن المهمة مستحيلة قبل بدئها، لماذا؟
– مستحيلة لأنني كنت على صلة بكوفي أنان طوال مدة مهمته. التقينا وفكرنا معاً وكنا على اتصال دائم. كنت مطلعاً على ما يجري. كان واضحاً أن النظام يعتبر ما يحدث مجرد مؤامرة خارجية من واجبه أن يحاربها بكل الوسائل ويفشلها. وكان واضحاً أن المعارضة ومعها من يدعمها في المنطقة والعالم، مصممة على أن لا حل إلا بإسقاط النظام. كان المعارضون يقولون: لا يمكن أن نتكلم مع أحد من النظام إلا بعد سقوطه. وكنت أجبتهم: لماذا تتكلمون معهم إذا كان النظام قد سقط؟
> لماذا وافقت روسيا على بيان جنيف؟ هل كانت تخشى سقوط النظام أم أرادت إعطاءه فرصة لالتقاط الأنفاس؟
– حدث ذلك خلال مهمة كوفي أنان. الله أعلم. الأكيد أن النص الذي صدر تمت مناقشته بسرعة كبيرة وانتهت بالاتفاق عليه وكان إنجازاً ضخماً. لكنه كان نصاً توافقياً بصورة أساسية بين الأميركيين والروس، أي بين هيلاري كلينتون وسيرغي لافروف.
أول خطوة في تطبيق هذا الاتفاق كانت أن يتحول قراراً من مجلس الأمن. هنا ظهر الشيطان في التفاصيل. اتضح وجود خلاف. بالنسبة إلى الأميركيين كان مفروغاً منه أن لا دور للرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية. الروس من جانبهم قالوا: لم نتكلم عن ذلك.
> هل صحيح أن هذا الأمر لم يناقش؟
– أنا لم أكن موجوداً. أعود وأقول إن النص كان توافقياً، وهذا النوع من النصوص يحتوي غالباً على قدر من الغموض. في الصياغة يمكن تبرير بعض الغموض أو عدم المعارضة لتسهيل الاتفاق. في التنفيذ عليك أن تظهر موقفك بوضوح لأن عليك أن ترفض أو توافق.
> لو طلبت منك أن تقول للقارئ العربي ما هو جوهر «جنيف»؟
– «جنيف 1» صدر في 30 حزيران (يونيو) 2012، كانت هناك محاولة لخلق إطار للسوريين لكي يتفقوا على حل لمشكلتهم. عبارات «بقيادة سورية» و «بموافقة السوريين» و «بمشاركة السوريين» تكررت في البيان، أي أن الإطار وجد ليتوصل السوريون إلى حل. في موازاة ذلك كان هناك فرضية لدى الأميركيين مفادها انه لا يمكن بعد الذي حصل أن يقود الأسد المرحلة الانتقالية أو أن يكون له دور فيها. بالنسبة إلى الروس كانوا يقولون إن هذا الموضوع (موضوع الأسد) يتم بحثه في حينه، أي أن تبدأ المرحلة الانتقالية بجلوس النظام والمعارضة معاً. تمسك الروس بهذا الكلام وأبلغوه أيضاً إلى وفد المعارضة السورية الذي زار موسكو قبل انعقاد «جنيف 2». قال الروس للمعارضة السورية: «نحن نوصلكم إلى غرفة وتجلسون مع النظام وتتفقون على ما تريدون».
> أقر البيان في مجلس الأمن لكن بصورة عرضية؟
– نعم. لم يقر في مجلس الأمن إلا عرضاً وبمناسبة صدور القرار 2118 الخاص بالأسلحة الكيماوية في سورية. أعتقد أنه في الفقرة 16 وبصورة عرضية أشير إلى تأييد المجلس بيان «جنيف 1». وهذا حدث في 27 أيلول (سبتمبر) 2013، أي بعد 16 شهراً تقريباً من ولادة بيان «جنيف 1»، وهذا يعطيك فكرة عن الشياطين التي تكمن في التفاصيل.
> إذاً نستطيع القول إنه حين ذهب بيان «جنيف1» إلى مجلس الأمن ظهر اختلاف الحسابات بين واشنطن وموسكو وتعذر صدوره في قرار ليشار إليه لاحقاً وعرضاً؟
– هذا صحيح تماماً ويفسر جانباً أساسياً من الصعوبات. اختلاف الحسابات بين أميركا وروسيا. كان كوفي أنان يأمل في قرار من مجلس الأمن يعبر عن تأييد موحد لبيان «جنيف1» حين تعذر ذلك اعتبر أن مهمته انتهت عملياً. كان يعتبر صدور القرار أمرا مفروغاً منه وحين لم يحصل ذلك خلال هذا النقاش اكتشف الأميركيون والروس أن اتفاقهم كان سطحياً.
> هل نستطيع أن نفهم منك أن اتفاق «جنيف1» بين الأميركيين والروس كان توافقيا وسطحياً وأن الغموض شاب المرحلة الانتقالية؟
– نعم، كان توافقياً وسطحياً، ما جعل الدخول في المرحلة الانتقالية غير ممكن، لأنه لم يحصل اتفاق على آلية هذه المرحلة. بيان «جنيف1» كان ينص على وقف إطلاق النار وتشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة.
> هل كان تعبير «بصلاحيات كاملة» هو الصيغة التوافقية؟
– نعم. الأميركيون يقولون إن ذلك معناه أن الصلاحيات التنفيذية كلها ستكون عند هذه الهيئة، وبالتالي لا يبقى للرئيس دور في هذه المرحلة. وذكر أيضاً أن الصلاحيات تشمل الإشراف على الجيش وقوات الأمن والاستخبارات. الروس يقولون: نحن نوافق على هذا الكلام لكن ليست هناك إشارة إلى أن الرئيس يجب أن يمشي. الرئيس موجود إلى أن تنتهي المرحلة الانتقالية ويتم الاتفاق على ترتيب بين السوريين أنفسهم، تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى الهيئة الانتقالية التي يجب أن تشكل بالتوافق.
> بدأت مهمتك وسط انكشاف التباين بين الأميركيين والروس؟
– نعم. عينت في آخر آب (أغسطس) 2012 . في الشهر التالي ذهبت إلى مجلس الأمن.
> بالمناسبة، من رشحك وكان وراء تعيينك؟
– هذا سؤال جيد. اتصل بي الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وهو الذي عرض اسمي على الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، وليس العكس.
> هل كان هناك من نافسك؟
– لم أسمع. ربما لأن عدد الأغبياء من أمثالي قلة.
> وما قصة رفض النظام السوري لناصر القدوة؟
– عينت واستمر ناصر القدوة في عمله، لأنه كان يعمل مساعداً لأنان في مهمته. كان الرفض السوري للقدوة منذ أيام أنان. اعترضت الحكومة السورية عليه لأنه معين من الجامعة العربية. وقالوا إنهم سبقوا وتعاملوا معه ولم يشعروا بالارتياح. وهو لم يزر سورية إطلاقاً.
> هل كان بلا دور؟
– لا، كانت لديه علاقات طيبة مع المعارضة وعمل في هذا الإطار.
> ذهبت إلى الأمم المتحدة؟
– نعم، ولاحظت وجود شخصين لديهما اهتمام واضح بالوضع السوري ولديهما قلق من مساره وتداعياته، وهما هيلاري كلينتون وسيرغي لافروف. لهذا قررت منذ البداية أن العمل يجب أن يتم معهما، لأهمية دور بلديهما، ولأن الخلافات بين أهل المنطقة شديدة للغاية في ما يتعلق بسورية. الشرخ في الداخل السوري كان كبيراً أيضاً. النظام لا يرى في الازمة سوى أنها مؤامرة خارجية من واجبه التصدي لها بكل الوسائل. المعارضة ترى أن النظام عذب وقتل ودمر، وأن الحل يبدأ برحيله. أمضيت نحو ساعة مع كلينتون ونحو أربعين دقيقة مع لافروف.
> ماذا كانت هيلاري تريد؟
– كانت تريد حلاً ينهي النزاع، مع تأكيدها أن بشار الأسد لا يمكن أن يستمر أو أن يكون له دور، وأن النظام لا يمكن أن يبقى كما كان.
> كانت مع إسقاط النظام أم مع إزاحة رأس النظام؟
– لا أريد التحدث نيابة عنها. كانت مصرة على الأقل على أن لا دور للأسد. بالنسبة إلي كان مهماً أن أشعر بأنها مهتمة بسورية وبالعثور على حل، وأنها تبحث عن مخرج من ضمن الخطوط الحمر التي رسمت للموقف الأميركي. وبين هذه الخطوط أن لا دور للأسد.
> ماذا استنتجت من لقائك بلافروف؟
– الملاحظة الأولى أنه يعرف سورية جيداً. يعرف الناس ويتابع ويقرأ بشكل كبير جداً. يشير إلى المعنيين بأسمائهم ويعرف مواقعهم، حسن عبد العظيم وأحمد الجربا وآخرين. الملاحظة الثانية أنه مهتم اهتماماً شديداً بالموضوع. طبعا هناك اختلاف في القراءة بين كلينتون ولافروف. شعرت أن من واجبي أن أحاول أن أعيد الفريقين إلى بيان «جنيف1» وتقريب وجهات النظر. لم اعتبر الأمر سهلاً، لكن لم يكن هناك أي خيار آخر، وهو محاولة توفير مظلة أميركية- روسية لجهود الحل.
كان لافروف وهيلاري يلتقيان في مؤتمرات ومناسبات ويتطرقان عرضاً إلى الموضوع السوري. حاولت جمعهما في لقاء مخصص بسورية ولم نتمكن من ذلك إلا في 6 كانون الأول (ديسمبر) 2012 في إيرلندة.
> كيف كان اللقاء؟
– اجتمعنا وكان اللقاء جيداً. هناك اتخذ قرار بأن يلتقي مساعدا كل منهما في جنيف لنجتمع معهما. وهكذا جاء وليام بيرنز وهو الرقم 2 في وزارة الخارجية الأميركية، وجاء من الجانب الروسي (ميخائيل) بوغدانوف و(غينادي) غاتيلوف وهما نائبا وزير الخارجية.
> هل ناقش لافروف وكلينتون في إيرلندا مصير الأسد؟
– لا. لم نتقدم كثيراً في لقاءات الصف الثاني في جنيف. والسبب أننا كلما حاولنا أن نخطو خطوة كانت تطل مسألة الهيئة الانتقالية والصلاحيات الكاملة، فيظهر الخلاف بين الفريقين. في 6 آذار (مارس) 2013 اتخذ وزراء الخارجية العرب قراراً بإعطاء مقعد سورية في الجامعة العربية إلى المعارضة وإلى حين حل الأزمة وإجراء انتخابات. قلت لهم إن هذا يعني أنكم حسمتم الموضوع ودوري انتهى. أنا أعتقد أن هذا القرار زاد التعقيدات ولم يكن ضرورياً، وأتساءل عن مدى توافقه مع ميثاق الجامعة العربية.
وجدت الأفق مسدوداً. في نيسان (أبريل) ذهبت إلى الأمين العام للأمم المتحدة وطلبت إعفائي من مهمتي، أي بعد ثمانية أشهر من بدئها. أصر الأمين العام، ومعه جون كيري ولافروف وآخرون، على أن أستمر. قال لي كيري: هل يمكن أن تنتظر قليلاً، فأنا ذاهب إلى موسكو وسأحاول الحصول على شيء منهم. أنا كنت متأكداً انه لن يحصل على شيء. وافقت. في 7 أيار عقد الاجتماع التاريخي بينه وبين لافروف. اتفقا على أن الأزمة السورية خطرة جداً وليس لها حل عسكري وتحتاج بالتالي إلى حل سياسي، وسيعملان معاً ومع آخرين للوصول إلى هذا الحل. هذا كان اتفاقاً جديداً. وقلت يومها هذا أول خبر طيب بالنسبة إلى سورية منذ وقت طويل.
هنا قالوا فلنبحث كيف نترجم هذا البيان الأميركي- الروسي. تابعنا الاجتماعات، أحياناً كيري ولافروف وأحياناً على مستوى مساعديهم. الحقيقة أن كيري كان مستعجلاً ويريد انعقاد مؤتمر «جنيف 2» في أقرب وقت. الروس كانوا يشيرون إلى الصعوبات.
هناك نقطة مهمة في قراءة ما حدث. في 2012 كانت أسهم المعارضة عالية جداً. اعتقدت المعارضة أنها ستحسم المعركة إلى درجة أن إحدى المحطات وهي «الجزيرة» تحدثت عن وصول طائرة من فنزويلا إلى مطار دمشق لنقل الأسد ومن يرغب في المغادرة معه. معنويات المعارضة كانت عالية واعتبرت أنها في الطريق إلى انتصار كامل. في 2013، وربما بعد آذار، ارتفعت معنويات النظام واعتبر نفسه منتصراً بسبب ما حققه ميدانياً. هنا اعتبرت المعارضة والأطراف المؤيدة لها أن انعقاد «جنيف 2» يجب أن يتأخر لتتمكن المعارضة من تعديل الوضع ميدانياً.
هنا أفتح مزدوجين لهما علاقة بما سمي «الربيع العربي»، والذي أكاد أقول إن معظم الناس أخطأ بتقديره، هذا إذا لم يكن كل الناس.
> كيف كانت لقاءاتك مع الأسد؟
– اللقاء الأول كان جيداً.
>هل رحب بمهمتك؟
– جداً (يضحك). هو والوزير وليد المعلم ونائبه فيصل المقداد، كانوا يقولون لي نحن نريد مساعدتك على إنجاح مهمتك (يضحك). وكنت أجيب لست أنا من يجب أن ينجح، القصة أن تحلوا مشكلتكم. يخيل إلي أن الأسد لم يشك يوماً واحداً في أنه سينتصر في النهاية، ولم يفكر يوماً واحداً في التنازل، خصوصاً للمعارضين المقيمين في الخارج الذين تؤيدهم دول غربية ودول في المنطقة. لا أعتقد أنه فكر ولو ليوم واحد أن يتنازل لهم عن شيء.
> تقصد أنه لم يفكر ولو مرة واحدة في الرحيل؟
– شعوري أنه لم يفكر في ذلك على الإطلاق. هل كان هذا موقفه الشخصي أم تحت تأثير المحيطين به لا أعرف الجواب. في يوم من الأيام قلت له: كفاية عليك، بدلاً من أن تكون الملك لماذا لا تكون صانع الملك؟ رددت له العبارة مرتين، في الأولى قال: لم لا، فأنا لن أبقى إلى الأبد. المرة الثانية قال: أنا مواطن سوري وهم يتحدثون عن الديموقراطية. إذا أحببت أن ارشح نفسي واقترع الناس لي أبقى، وإذا لم ينتخبوني أمشي. أنا مواطن سوري ولا يمكن أحداً أن يحرمني حقي في ترشيح نفسي.
> في أي لقاء بحثت معه مسألة المرحلة الانتقالية؟
– في كل اللقاءات.
> ماذا اقترحت عليه؟
– أن يكون صانع الملك. هذا أهم اقتراح. طبعاً أنا كنت أتحدث باحترام شديد. قلت له مرة إن بلادنا تحتاج إلى التغيير، والناس لدينا يشعرون بأننا خذلناهم وخيبنا آمالهم. لم نقدم لهم ما كانوا يتوقعون منا، ولهذا ينتظرون التغيير. يريدون أن تكون لهم كلمة في إدارة شؤونهم. رد بما معناه أنه موافق على الكلام في عموميته. في تشرين الثاني (نوفمبر) تكلمنا عن «جنيف2» فقال نحن جاهزون وسنذهب، لكن إذا لم يتخذ اللقاء قراراً صريحاً وواضحاً في موضوع الإرهاب فلا داعي له ولا فائدة. وفي موضوع الإرهاب كان يقصد أن تقفل الدول المجاورة لسورية حدودها معها وتمنع تدفق الرجال والسلاح.
> كم كانت تدوم الجلسة؟
– مش كتير. المرة الأولى أقل من ساعة. المرة الثانية أكثر قليلاً، أي حوالى الساعة.
> فلنتحدث عن أخطاء التقدير في «الربيع العربي»؟
– اعتبر الناس أن زين العابدين بن علي رجل قوي ولديه مؤسسات أمنية صارمة تعتقل من يجرؤ على التكلم في بيته ضد الرئيس. واعتبروا أن المسألة ليست بهذه الخطورة وأنها قصة شاب أحرق نفسه وحصلت بعض التظاهرات. وإذا بالرجل يسقط خلال أقل من شهر. بوعزيزي أحرق نفسه في 17 كانون الأول (ديسمبر) وبن علي فر في 14 كانون الثاني (يناير).
جاءت مصر. تحدثوا عن دولة راسخة المؤسسات والحجم الهائل للمؤسسة الأمنية. هيلاري كلينتون نفسها قالت: «من قال إن حسني مبارك ديكتاتور؟ إنه ليس كذلك».
> اأفهم أن الأميركيين لم يكونوا مع إزاحة مبارك؟
– لا، لم يكونوا. مبعوثهم (السفير السابق) فرانك ويزنر قال إن مبارك أبلغه أن ترشيح نجله للرئاسة غير وارد، وأنه شخصياً سيكمل ولايته ولن يترشح لولاية جديدة. لكن مبارك سقط في 11 شباط (فبراير) وخلال أقل من شهر. معمر القذافي قالوا هذا رجل ليس لديه دولة وجيش بالمعنى المتعارف عليه، وإن مجرد ضربة من الفرنسيين والبريطانيين ستقتلعه، وإذ به يستمر نحو سبعة اشهر وكلفهم مبالغ كبيرة.
حين جاءت سورية قالوا هذه المرة لن نخطئ وبشار سيسقط قريباً. حين جاء كوفي أنان وتحدث عن ضرورة التفاوض انزعجت المعارضة ومن يؤيدها وتساءلوا ماذا يريد هذا الرجل؟ وحين جئت أنا وتحدثت عن حل سياسي قالوا هذا أسوأ من سلفه. ثمة من راح يتحدث عن محاولة لحماية بشار أو إطالة عمره في السلطة، وهذا لم يكن وارداً على الإطلاق أو مطروحاً، فقد كان واضحاً لدينا أن سورية تحتاج بعد الذي حصل إلى تغيير. اتهموني وقاطعتني المعارضة السورية الممثلة آنذاك بـ «المجلس الوطني»، وشن السيد جورج صبرا حملة على الإبراهيمي. حصل ظلم شديد جداً. أنا كنت مكلفاً بمهمة تستند إلى بيان «جنيف1» ولم أكن العقبة أمام أي حسم ميداني من هذه الجهة أو تلك. تعاملت «الأقلام المأجورة» في المنطقة العربية معي كعدو، وربما ظهرت مقالات في تركيا واعتبرت أن الحديث عن حل سياسي هو تأييد للنظام. أنا لست ضد أن ينتقدني كاتب أو صحافي لكن شرط أن يتحرى الحقائق والوقائع لا أن ينسب إلي ما لا أفكر فيه. النظام من جهته لم يكن سعيداً بوجودي، لأنه يعرف جوهر مهمتي وقد هاجمتني أقلامه. وهكذا تلقيت السهام من النظام ومعارضيه والحمد لله. الحقيقة أنني كنت أتوقع أن يتعامل بعض الإعلام العربي في هذه النقطة بالذات بمهنية أكبر وأن يدرك حجم التعقيدات والتوازنات وأن لا يتم تغليب التمنيات على الوقائع لدى الحديث عما يجري.
أنا لا ألوم المعارضة على مشاعرها بالانتصار في 2012. كانت تسمع من دول كبرى ومهمة أن النزاع حسم وأن خروج بشار الأسد أكيد. هكذا نظرت المعارضة إلى الدعوة إلى التفاوض وكأنها محاولة لمساعدة المهزوم. في 2013، وبعد تحقيقه تقدماً ميدانياً، نظر النظام إلى فكرة التفاوض على أنها محاولة لمساعدة الطرف المهزوم. تصور أن معارضاً مقيماً في الخارج منذ سنوات ويسمع أجهزة استخبارات أساسية تقول إن نظام الأسد يقترب من السقوط. هل تتوقع أن يتعاطى إيجاباً مع دعوة إلى التفاوض حول مستقبل النظام في سورية؟
> أجريت محادثات مع عدد من قادة الدول في المنطقة؟
– نعم . في تشرين الأول (أكتوبر) 2012 استقبلني الملك عبد الله بن عبد العزيز. بأمانة أقول إن الحديث معه كان في منتهى الجودة. رجل مطلع وواقعي جداً. أمضينا ساعة كاملة. كان مدركا أن المعارضة منقسمة وان التغلب على تلك المشكلة صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً. قلت له إن الحل العسكري يبدو مستحيلاً، وإن الجهد يجب أن يتركز على حل سياسي، فشجعني جداً على السير في هذا الطريق. وجدت موقفه عقلانياً.
> في صيف 2013 كانت هناك نقطة تحول بالغة الدلالات؟
– نعم. في 21 آب (أغسطس) حين طرح موضوع الأسلحة الكيماوية في سورية.
(غداً حلقة ثانية)