مفكر إسلامي
خاص لـ هات بوست :
نبدأ يومنا وأعمالنا وأقوالنا ب “بسم الله الرحمن الرحيم”، ونكاد نردد هذه الآية عشرات المرات في اليوم الواحد، ونحن نقر برحمة الله التي رجحت على عذابه، ونقرأ قوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء107) لندرك أن الرسالة التي حملها محمد بن عبد الله (ص) لا تخصنا وحدنا كأمة، وإنما هي رسالة عالمية، ختمت الرسالات جميعها وأكملتها، في إعلان عن أهلية الإنسانية للعيش دونما رسل جدد يوجهون مسارها.
ولطالما واجهت سؤالاَ من قبيل: “ألم نكن سنصل إلى ما نحن فيه دونما رسل وأنبياء؟” والجواب: بالطبع لا، فالإنسانية مرت بمراحل عديدة في ابتعادها عن المملكة الحيوانية، كانت الرسالات خلال هذه المراحل هي الدليل الذي يصحح المسار بما يتناسب مع التراكم الحضاري والأخلاقي التدريجي، حتى جاءت الرسالة المحمدية لتكمل الإسلام الذي ابتدأ مع نوح وتختم الرسالات وتعلن صلاحية الإنسانية لتلمس طريق الرشد بنفسها دونما تدخل مباشر من الخالق جل وعلا، وفق هدى من القيم الأخلاقية التي تتناسب مع فطرة الناس جميعاً، وما نراه بديهياً اليوم لم يكن كذلك على مر العصور، وكما تراكمت القيم تراكمت الشرائع، والرحمة التي حملتها رسالة محمد تتجلى في تخفيف العقوبات عن الناس وتحويل أحكام الشريعة من حدية لا مرونة فيها، إلى حدودية تتحرك بين حد أدنى يبدأ بالعفو إلى حد أعلى، يبلغ الإعدام كعقوبة قصوى لحالة معينة، وهذا ما تنتهجه كل السلطات القضائية في العالم اليوم، والأهم في تجليات الرحمة أن الرسالة المحمدية ضمت الناس جميعاً تحت لوائها، إلا استثناءات قليلة، فكل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً هو مسلم ولا خوف عليه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62) إن علم ذلك أم لم يعلم، ومن ثم نفهم معنى الإسلام الذي لن يقبل الله ديناً غيره من الناس، ونفهم أن الجنة ستعرض بما يعادل السماوات والأرض، وأن تستجدي جهنم الزبائن كي تمتلىء، أما أن يخلق الله الكون ليدخل خمس الناس فقط في أفضل الأحوال إلى الجنة فهذا غير منطقي، ولا يتلاءم مع عدالته ورحمته سبحانه وهو القائل {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 156) فالرحمة واسعة والعذاب محدود، وفي كل ملة هنالك متقون، والزكاة تمثل العلاقة الأفقية مع الناس، وأنت تزكي نفسك بكل عمل صالح تقدم عليه نحو الغير.
والتقوى لها شقين، الأول هو تقوى الإسلام، أي تقوى الصراط المستقيم التي لا تقبل أنصاف الحلول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران 102)، حيث لا مكان لعدم الاستطاعة في القسط بالميزان أو قتل النفس أو ارتكاب الفواحش أو عقوق الوالدين، والثاني هو تقوى الإيمان، أي التقوى الخاصة بالتكاليف في كل ملة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن 16) حيث التكاليف تؤدى وفق الاستطاعة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها و {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة 185).
وهنا ثمة ما يجب الانتباه إليه أن المرء يُقبل على دينه طواعية دونما إكراه، والدين يتدخل في حياة الأفراد بقدر ما يسمحون هم له بالتدخل، وبموجب وازع داخلي هو سلطة الضمير، وبالتالي فهو علاقة شخصية بين الإنسان وربه، لا يحق لأحد التدخل فيها، والشعائر على أهميتها ليست موضع تقييم للشخص إلا بقدر نفاق المجتمع، والمفروض بإقامة الصلاة وصوم رمضان وأداء الزكاة وحج البيت أن تكون مناط قبول أو رفض من الله تعالى، لا من الأشخاص حولنا، ونحن نصوم لله لا للمجتمع، أما المجتمع الذي يرغم فيه الفرد على الكذب وادعاء الصوم (أو ممارسة الشعائر من أجل إرضاء المجتمع، أو خوفاً من أعين الناس فقط) فهو مجتمع منافق، يخاف الناس فيه بعضهم بعضاً ولا يتقون الله، وسمته الإكراه لا الحرية، وهو بالتالي مجتمع أحادي، مهدد بالهلاك، فطبيعة الناس الاختلاف، سواء في الأعراق أو الطباع أو الألوان أو درجة الوعي أو درجة الإيمان، ضمن الملة الواحدة أو الملل المتعددة، وعلينا قبول هذا الاختلاف، طالما أننا مجمعون على القيم الأخلاقية.
أخيراً لنتذكر دائماً أن الله رحيم، فلنتحلى ببعض الرحمة في حكمنا على الناس، في رمضان أو في غيره.