مفكر إسلامي
خاص لـ هات بوست:
يعرّف الدين بأنه الانقياد والطاعة دونما إكراه، تحكمه سلطة الضمير فقط، فأنت كإنسان تسمح لدينك أن يتدخل في حياتك الشخصية بكل أريحية، وكمسلم مؤمن بالرسالة المحمدية تمتنع مثلاً عن أكل لحم الخنزير بموجب إيمانك برسالتك، وتعلم أن الله يراك، ولا سلطة لسواه عليك، وإلا أصبحت مكرهاً، سواء كنت تحت ضغط الأسرة أم المجتمع، سيما في الأمور الفردية غير المقوننة، وبناءً على ما يمليه عليك ضميرك ستستحق الثواب أو العقاب، وهذا ما اختصره قوله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة 256).
ورغم أن المنظومة الفقهية الموروثة حاولت التحكم برقاب العباد، شأنها شأن تدخل الكنيسة في حياة أتباعها في مراحل تاريخية سابقة، إلا أن الإسلام الذي حمله التنزيل الحكيم يختلف تماماً، فهو يمنح الإنسان مطلق الحرية في اختيار ما يشاء من ضمن مجال واسع الطيف، في شتى المجالات، والخطوط الحمراء محددة ومعدودة، تتلخص في محرمات أربعة عشر، يتفق على معظمها أهل الأرض، وتنسجم مع الفطرة الإنسانية، ورغم ذلك فأنت حر بالتزامها أو الخروج عليها وتحمل مسؤولية اختيارك، وربما تعاقبك القوانين في الدنيا، أما في الآخرة فالله وحده معني بذلك، وعلاقتك بالآخرين تتمحور حول القيم الأخلاقية، بينما معتقداتهم لا شأن لك بها، ويفترض ألا يتدخل القانون فيها، والله تعالى ترك لنفسه هذا الحق {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17) وبالتالي فإن أداء الشعائر هو شأن شخصي، ولا يحق لأحد التدخل بعلاقة الإنسان مع ربه.
ورب قائل هنا: إذا كان الدين علاقة فردية ماذا عن {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} و {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة 44 – 45- 47)؟ نقول عودوا للآيات ولا تقتطعوها من سياقها، فهي تتحدث عن اليهود الذين خالفوا شريعة موسى، وأهل الإنجيل الذين خالفوه أيضاً، علماً أن الشرائع خضعت للتطور، وشريعة محمد نسخت بعض ما جاء قبلها من أحكام، فخففت الإصر والأغلال عن الناس، بتخفيف العقوبات وتقليص المحرمات، وانتقالها إلى الحدودية بدلاً من الحدية، واليوم كل قوانين الدول تشرّع ضمن حدود لا تخرج عن حدود الإسلام إلا فيما ندر، والحاكمية الإلهية التي علينا الالتزام بها هي عدم تجاوز المحرمات، أما أدلجة هذا المفهوم فالهدف منه سياسي بحت، يطمح للوصول إلى السلطة لا غير، والدين والسلطة خطان متوازيان مهما امتدا لا يلتقيان، فالأول لا يملك أداة الإكراه، بينما لا تقوم السلطة إلا على امتلاكها، والنبي (ص) أقام دولته في المدينة كتفاعل أول للرسالة مع الواقع، فلم يعاقب أحد على صلاة أو صيام، وضمت الدولة كل فئات المجتمع وملله، بما فيها المشركين والكافرين والمنافقين، والناس سواسية في الحقوق والواجبات، والسلطة للقانون، وهذا القانون يتغير بتغير الظروف الزمانية والمكانية، فما ينطبق في ذاك العصر لا ينطبق في عصرنا هذا، وما ناسب المدينة المنورة حينها لم يكن ليناسب باريس، بينما الرسالة صالحة لكل زمان ومكان ومهمة الاجتهاد الإنساني التفاعل معها وفق متغيرات الزمن، وبالتالي فإن قرارات النبي ليست حجة على أحد، واجتهادات الخلفاء والصحابة والأئمة ليست دين، وليست دستور إلهي يقتبس منه ويقاس عليه، وكل لجان الإفتاء لا شرعية لعملها، فالحرام واضح وبيّن ومغلق وبيد الله وحده إلى قيام الساعة.
وثمة أمر أراه مهماً للوقوف عنده، وهو أن الإسلام لا يتعارض بالمبدأ مع العلمانية من حيث كونها فصل الدين عن الدولة، فالإنسان يمكن أن يكون مسلماً مؤمناً بالله واليوم الآخر وملتزماً بالقيم الأخلاقية، ومؤمناً برسالة محمد وملتزماً بأداء الشعائر، لكنه غير معني بدين جاره ولا مشكلة لديه بأن يمارس الجار كامل شعائره ضمن بيته أو في أماكنها، طالما أن هذا الجار لا يؤذيه في شيء، وعيش المسلمين في بلاد الغرب وتأقلمهم خير دليل على ذلك، أما أن نعتبر العلمانية مرادفة للإلحاد فهذا خطأ، له أسبابه التاريخية، حيث نشأت العلمانية كرد فعل على تسلط الكنيسة على رقاب الناس، فأصبح الانقلاب عليها كلياً هو الحل.
وإذا كنا ندعو لفصل الدين عن الدولة، فهذا لا يعني مطلقاً فصله عن المجتمع، حيث لكل مجتمع صفاته التي تميزه ولكل أمة سماتها، أما السياسة فشأن آخر تماماً.
ولا أجد ما أختم به أجمل من قوله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33).