مفكر إسلامي
خاص لـ هات بوست:
على اختلاف تفاصيل الأحداث الجارية في العالم العربي، يمكن للمتتبع ملاحظة قاسممشترك واضح، وهو ميل الشعوب إلى التعايش بعيداً عن التفرقة الطائفية والمذهبية، ومللها بشكل عام من استخدام معتقداتها الدينية كمطية للمصالح السياسية هنا وهناك، سيما عندما تصاب بخيبة أمل من ملوك الطوائف تلك، وتواجه الواقع الاقتصادي السيء دونما حلول مباشرة.
ولطالما كان تقسيم الشعوب إلى طوائف ومذاهب وملل وسيلة فضلى للسيطرة عليها، بحيث تستخدم الطائفية كسلاح جاهز للاستعمال بيد أي مؤامرة يراد لها أن تحاك، ويمثل الولاء هنا الغطاء الذي يبرر أي اقتتال قد يطال في أحيان كثيرة أفراد الأسرة الواحدة.
ورغم أن الولاء لحزب أو زعيم أو طائفة لا ينبع من الدين دائماً، بل له منابع عديدة، إلا أنه حري بنا التعريج على مصطلح “الولاء والبراء” الذي يعد ركناً في الثقافة الإسلامية الموروثة، ويشكل أساساً معتمداً في تحديد العلاقة مع الآخر، حيث المعيار هو الشرك والتوحيد وفق المفهوم التقليدي للإسلام، وبناءً على رأي “ابن تيمية”: “الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض”، ومن ثم يقسم “أهل السنة والجماعة” الديار إلى ديار الإسلام وديار الكفر، والولاء بالنسبة لأهل الشيعة هو إما للولي الفقيه أو للمرجع الذي ينوب عن “الإمام الغائب”، وعليه فإن الطرفين قد قزموا الإسلام من رسالة رحمة عالمية للناس أجمعين{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107) على مر العصور والأزمان وحتى قيام الساعة، إلى رسالة شرق أوسطية أحكامها تتماهى مع القرن السابع الميلادي، فيها ثلاث وسبعين فرقة واحدة منها فقط ناجية، وكل ما تبقى غيرها في النار، ناهيك عن الأمم والملل الأخرى، وكأن الله تعالى خلق الكون كله ليعذب مخلوقاته، فلا يدخل جنته إلا جزء يسير من عباده.
إلا أن الإسلام وفق التنزيل الحكيم يجمع الناس بغض النظر عن أعراقهم وألوانهم وأجناسهم، ضمن رابط الإنسانية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} (الحجرات 13)، وهذا الولاء الشامل لا يتعارض مع الولاءات الشخصية، سواء ولاء المرء لأسرته أم لعشيرته أم لقومه، وكلها ولاءات اختيارية لا إكراه فيها، أما البراء فهو براءة من معتقدات تتعارض مع معتقداتك وسلوكياتك {إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام 78)، آخذاً بالاعتبار {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62)، فإذا عدنا للإيمان بالله كمواز للكفر بكل أنواع الطغيان {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256) استطعنا قراءة قوله تعالى {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} (آل عمران28) على نحو مختلف مما تكرس في أذهاننا من مفاهيم مغلوطة، حيث يختلف تقييمنا للمؤمنين والكافرين كلياً عما اعتدناه، و يصبح العامل الأساسي الذي يبنى عليه الولاء الديني هو موالاة المشتركين معك بالقيم نفسها، والبراء من كل من يؤمن بأفكار الطغيان وقمع الحريات.
أما اعتبار قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة51) قاعدة للتعامل مع أتباع الملل الأخرى، فهذا فهم قاصر للآية، عمم ما هو خاص بفئة معينة عاصرت عهد النبوة، على كل اليهود والنصارى على مر الزمن، دون إقامة أي اعتبار للأخوة في الإنسانية والقومية والوطن.
خلاصة القول أن الولاء الديني في الإسلام هو ولاء للإنسانية قبل كل شيء، والاقتناع بالولاء لمذهب معين دون غيره لا أساس إسلامي له، فالمذاهب جميعها نشأت لأغراض سياسية سلطوية بحتة، فلا تعتقدن بأفضلية أحدهم على الآخر، وولائك للإسلام هو قناعة فردية مبنية على علاقتك الشخصية بالله، يجب أن تنعكس قيماً أخلاقية في التعامل مع الآخرين، ولا تتعارض مع الولاء للوطن أو القومية أو الشعب.
وعلى صعيد شخصي أحدد ولائي وفق عدة مستويات:
* ولائي كمسلم أني مؤمن بالقيم الإنسانية التي جاء بها الإسلام، وأتعامل مع الناس على أساسها.
* ولائي كمؤمن أني أصلي مع المؤمنين إلى القبلة، وأزكي وأصوم وأحج.
* في القومية أنا أتكلم لغتي، وضمن هذا المستوى لا يوجد ولاء وبراء، وإلا أصبح تعصباً قومياً، فولائي لقوميتي العربية يجب ألا يجعلني أتبرأ من باقي القوميات.
* في الشعب ولائي للقانون السائد وليس لأي شخص، وهذا الولاء يتغير بتغير الوطن.
أما البراء، فأنا كمسلم مؤمن، إن كنت أعيش مع المشركين، فأنا بريء مما يشركون لا منهم، لأن علاقتي معهم علاقة تعارف دائماً.
أتمنى للشعوب في المنطقة العربية وعي أن ما يوحد بين أفرادها أكبر بكثير من ولاءات ضيقة، فلتضع ذلك نصب أعينها في طريقها للتخلص من أشكال الطغيان.