نبيل فكري
لم يكن هناك أفضل من «أوبريت المجد» كي ينطلق به مهرجان زايد التراثي أمس.. تجاوز حدود العمل الفني إلى محاكاة الواقع، ورصد مسيرة البلاد من العين إلى الاتحاد في سلاسة وضعت الحضور في قلب الأحداث، خاصة أن مجسماً لقلعة المويجعي بالعين، كان مسرحاً للأداء، فأضفى على العمل الفني الكثير من الحقيقة.
كان الحديث عن ثلاثة آلاف عارض سيشاركون في «الأوبريت» بمثابة ضرب من الخيال، لكن مع بدء العمل الفني الكبير، لم يشغل أحد باله إن كان العارضون ثلاثة آلاف أو أقل أو أكثر، لأن الجميع كانوا يتفرجون على مشاهد من الحياة، سواء عبر الشاشة العملاقة على المسرح، أو الاستعراضات التي تؤديها «المجاميع»، والتي تحول معها العمل الفني إلى عمل أوبرالي ضخم، يحاكي أعمالاً عالمية.
وقد أجاد المخرج عبيد علي في قيادة هذه المجاميع الغفيرة، كما أجاد التحول من التاريخ إلى الواقع، بالانتقال من الشاشة إلى المسرح، والاستعانة بمشاهد من الذاكرة تزيد أدوار المؤدين عمقاً، كما تكاملت الأشعار التي كتبها عارف الخاجة مع موسيقى الملحن إبراهيم جمعة، وتناغمت معاً لتقدم عملاً راقياً حبس الأنفاس من البداية إلى النهاية.
براءة الطفولة
وخطفت إحدى تلميذات مدرسة مبارك بن محمد بأبوظبي الأنظار بأدائها الممتع والمفعم بالبراءة، وأجاد المخرج توظيفها بشكل رائع، فقد اختار لها الدخول في توقيت ارتفعت فيه وتيرة الحماسة لدى كل المتابعين، وكأنه أراد أن يهدئ من روعهم، فنثر فيضاً من البراءة على كل الجلوس في منصة العرض، لتنشد الفتاة وكأنها تدور على البيوت في رمضان بعد المساء أو في أيام العيد:
أبويا خليفة .. يا عزوتي والعون
رايتك دوم منيفة.. يحفظك رب الكون
«أوبريت المجد» رصد مسيرة البلاد من «العين» إلى «الاتحاد»، من خلال 4 لوحات فنية تحاكي الرحلة من «دار الزين» إلى قيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، وما بين العين وحاضر الدولة النابض بالعزة والنماء والتطور، جاءت تفاصيل المسيرة مفعمة بالحيوية، وبالرغم من أن مدة الحفل لم تزد عن نصف ساعة تقريباً، إلا أنها كانت دسمة، مغرقة في التاريخ والحداثة معاً، تنتقل من مرحلة إلى أخرى بسلاسة، تاركة الحضور في لهفة إلى القادم، وفي شوق لإعادة ما مضى.
بدأت الرحلة من العين، حيث كانت البداية، وهنا مهدت كلمات الشاعر عارف الخاجة نفوس الحاضرين لاستقبال القادم، من خلال أبيات موحية، مغرقة في الصدق:
لم يكن قبلك من حلم .. سوى حلم البقاء
والأناشيد بيات .. والمواعيد عناء
ثم أقبلت كغيث .. ورغيف ودواء
لم يكن صعباً على الحضور أن يدركوا أن القادم هو «زايد» .. هو هذا الحلم الذي أقبل على الإمارات وعلى العرب والعالم.. وقاد رفاقه إلى وحدة نادرة، أصبحت نموذجاً في صدى الزمن .. نعم هو زايد .. الغائب الحاضر في كل مشهد .. هو من يزداد مع الغياب قرباً، فقد استثمر في القلوب قبل الصروح، وزرع في الصدور مروجاً من حب.
بداية الحلم
وفي العين حيث كانت بداية الحلم وبداية الوطن، جسد الشاعر ترافقه الموسيقى والمجموعات، قصة الحب التي توهجت بالعدل والحلم والحكمة:
وحكمت العين بالحلم .. وصبر الحكماء
جئت يا زايد حلماً .. وحنيناً وبقاء
جئت كي تصبح «عينُ» العين .. عيناً للضياء
ومع الأشعار والموسيقى، كانت الصورة على الشاشة ترصد تفاصيل الحكاية القديمة.. مبهجة وكأنها حية إلى الحين.. تكاد تسمع خرير الماء وهفيف الأشجار، وتصلي مع زايد على ربوة، يطل منها على الغد الذي جاءه في الموعد.
وتنتقل الرحلة إلى أبوظبي، يواكبها الشاعر، مجسداً كل المعاني التي باتت تمهد لاتحاد، وتمهد لتلك الحالة النادرة التي أصبحت حديث العالم:
ومن العين حملت الحلم.. حلم الصابرين
من تمنوك دواء .. وشفاء للسنين
من رأوا في قلبك الحاني .. ملاذ الحائرين
جئت للعاصمة الشماء .. عزماً ويقين
فلهم فوز المعاني .. ومعاني الفائزين
وأبوظبي لها الناموس .. والنصر المبين
ومع إلقاء المبدع أحمد سالم وأداء الفنان الرائع عبدالله صالح، تزداد الصورة عمقاً، تبدو معها وكأنك على قمة شاهقة تغزو السحاب .. تبدو – كما قال جبران- كأنك في لجين من رقيق الضوء يذوب .. فكل ما حولك مبهر، وكل ما حولك آسر، وكل ما حولك يتجاوز حدود العمل والتلقين والحفظ إلى الرغبة.. من على المسرح لا يؤدون .. إنهم يعيشون تفاصيل الحياة .. إنهم حولك وأنت تهتف معهم:
أبوظبي .. التاريخ والصور .. العزم يسري في آفاقي وينتشر
وإلى اللوحة الثالثة، ينتقل الحضور.. هم يعلمون إلى أين يأخذهم العرض.. إلى «البيت المتوحد»، والوحدة بدأت من زايد:
كنت يا زايد شدو الأرض .. روح الاتحاد
البيت متوحد
وهنا، تدوي عبر الشاشة كلمات الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مؤكدة أن الإمارات بخير بقيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، وأنه لا مجال للتأثر بالغوغاء ما دام البيت متوحد، وهي المقولة التي استدعاها المخرج من إحدى المناسبات، لتبدو وكأنها آنية، فتلهب حماس الحضور، وتدوي المقصورة بالتصفيق.
ولأن خليفة «الشعب» والشعب «خليفة» .. جاءت اللوحة الرابعة لتجسد واقع الوطن الذي يباهي بقيادته المحبة الوفية، وفي بدايتها يتمثل الشاعر ما يكنه قلب كل إماراتي:
بعد أن أصبح رمزاً ومثالاً للعرب
بعد أن سجل في التاريخ اسماً من ذهب
بعد أن ثبت راية الإمارات منيفة
حمل الراية خليفة
وفي تلك اللوحة، يتزاوج الماضي مع الحاضر في إبهار شديد، محبوك بالمشاعر التي فاضت بين الحضور، بوصول العمل إلى ذروته الدرامية، لتأتي تلميذة مدرسة مبارك بن محمد وتلقي «تعويذة السلام» والمحبة لربان السفينة:
يا أبويا يا خليفة
يا عزوتي والعون
رايتك دايماً منيفة
يحفظك رب الكون
وقبل إسدال الستار على الأوبريت، يتمثل الشاعر من جديد دعاء التقطه من على لسان كل إماراتي:
الله يا الله رب السماواتِ
أدعوك يا معبود في كل أوقاتي
احفظ لنا يا رب أرض الإماراتِ
واحفظ شيوخ الدار أهل المروءاتِ
بقي مشهد أخير:
في الحفل، كان هناك كثيرون من أبناء جاليات عربية وأجنبية.. كلهم بدوا بالغي التأثر.. البعض بكوا.. ربما حزناً على «ليلاهم».. لكن الكل كانوا سعداء بـ «ليلى» التي لم تخلف الموعد مع فارسها الأبيّ.. ليلى التي ليست كتلك «العامرية» .. إنها الإمارات الوفية لزايد.
المصدر: صحيفة الاتحاد