كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة
عام 1990 أقيم في مدينة «أسوان» بجمهورية مصر العربية احتفال تاريخي لإحياء مكتبة الإسكندرية القديمة، دُعي إليه عدد من زعماء العالم، كان من بينهم المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وكان لي شرف حضور هذا الحدث التاريخي المهم، ضمن الوفد الإعلامي الرسمي المرافق له رحمه الله، وما زالت تفاصيل ذلك الحفل حاضرة أمامي حتى اليوم.
حيث تبرع وقتها بمبلغ 20 مليون دولار، مساهمة من دولة الإمارات العربية في إحياء هذه المكتبة العريقة التي تختلف الروايات حول من شيدها، لكنها تتفق على أنها كانت كبرى مكتبات عصرها، وأنها قد تعرضت للعديد من الحرائق، كان آخرها في زمن الإمبراطور الروماني «يوليوس قيصر» عام 48 قبل الميلاد، وفق أغلب الروايات، حتى تم إعادة إحيائها من جديد في العصر الحديث، وجرى افتتاحها عام 2002، بدعم من منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة «اليونسكو».
الشاهد في هذا الحدث هو أن مساهمة المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في إحياء مكتبة الإسكندرية ترك انطباعاً جيداً لدى الجميع، وأكد أن قادة دولة الإمارات العربية المتحدة، كانوا ومازالوا داعمين للمكتبات، لأنها حاويات العلم والفكر والثقافة التي لا يمكن أن تقوم حضارة في الكون إلا بدعمها والاهتمام بها، لأن الكتب هي مصادر الثقافة الأولى، وهي الحاضنة الأولى للفكر والفن والإبداع بمختلف أشكاله، وتعدد أنواعه، واختلاف مصادره.
لذلك أيضاً، وبينما كانت إمارة دبي منشغلة في بدايات ستينيات القرن الماضي بوضع قواعد بنيتها التحتية، وترسيخ مكانتها كمركز تجاري مهم على ساحل الخليج العربي، التفت المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، إلى أهمية الكتب والقراءة في حياة الشعوب، والدور الحيوي الذي تلعبه المكتبات في بناء الأوطان.
ودفع الشعوب إلى تطوير بلدانها، فكان إنشاء «مكتبة دبي العامة» عام 1963 واحداً من المشاريع الثقافية الكبرى التي شكلت هوية إمارة دبي، قبل قيام دولة الإمارات، وظلت «مكتبة دبي العامة» تمارس دورها في إثراء الحياة الثقافية في إمارة دبي بالكتب التي كانت تحتويها، والمحاضرات التي كانت تنظمها.
وعلى مدى أكثر من نصف قرن تركت هذه المكتبة أثراً بالغاً في نفوس الذين شهدوا بداياتها، والذين ارتادوها على مدى أكثر من خمسة عقود، وغدت واحدة من معالم دبي الشهيرة، بل الأثيرة لدى عشاق القراءة، بموقعها الجميل.
حيث تحتضنها خاصرة «خور دبي» من ناحية «ديرة» بحنان بالغ، مضيفة على هذه الناحية من المركز التجاري لإمارة دبي طابعاً يقول: إن دبي ليست تجارة ومالاً فقط، وإنما هي فكر وثقافة وروح خلاقة منذ أن عرفها البشر.
ولأن الزمن يتطور، ولأن هذا التطور يتخذ شكلاً متسارعاً في عصرنا هذا، فقد جاء قرار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بإنشاء «مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم»، معززاً لهذه الفكرة، ومؤكداً الدور الحيوي الذي تسهم به المكتبات في ترسيخ القراءة، وتحويل الثقافة إلى منتج مجتمعي، يرفد المسيرة التنموية، ويوازن بين حاجة العقل واحتياجات الإنسان المادية.
ولأن هذا النهج راسخ لدى قادة دولة الإمارات، فقد شكل هذا العام محطة رئيسية في مسيرة دعم الثقافة والفن والإبداع بمختلف أشكاله، بدءاً من إعلان صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، عام 2016 عاماً للقراءة، مروراً بالمشاريع الكبرى التي أعلنت خلاله.
ومنها افتتاح دار دبي للأوبرا التي تعتبر أول مسرح متخصص ومتعدد الأغراض للفنون الأدائية وسط مدينة دبي، و«مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم» التي أعلن سموه أنها ستعمل على تنشيط حركة التأليف والترجمة، والتقريب بين المثقفين والمفكرين، وإرساء ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر.
وفي الطريق «متحف الاتحاد» الذي سيتم افتتاحه يوم الثاني من ديسمبر المقبل، في إطار احتفالات الدولة باليوم الوطني الخامس والأربعين.
«ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر» هي أكثر ما نحتاج إليه اليوم، في ظل ما يعيشه العالم ويشهده من صراعات بين الأمم والشعوب، نصيب المسلمين والعرب منها هو الأكبر والأكثر دموية ومأساوية.
وهي صراعات تصب كلها في صالح أعداء الأمتين العربية والإسلامية، لأن نتائجها هي تمزيق أوصال الأوطان العربية، وزرع الفتن والخلافات والأحقاد بين شعوبها وطوائفها، وتدَخّل الدول الأخرى في شؤونها، وارتهان قرارها لغيرها، وتحقيق أهداف أعدائها الذين يبنون مشاريعهم على أنقاض أوطاننا، في الوقت الذي نمضي فيه نحن إلى مصائرنا الكارثية مغمضي العيون، منغلقي الفكر، غير مدركين لما يحاك ضدنا، ويُدبَّر لنا، ويُصنع بأوطاننا.
يقول الكاتب الفرنسي لوسيان بولاسترون في كتابه الممتع «كتب تحترق.. تاريخ تدمير المكتبات»:
«وأما «بيروز» الكاهن أو العراف الذي اخترع الساعة الشمسية، والذي يقال إنه كتب في ظل الإسكندر المقدوني تاريخ الحضارة، طبقاً للمصادر القديمة، فهو يقول لنا بأن عاصمة العالم قبل الطوفان ما كان اسمها إلا: جميع الكتب».
دولة الإمارات العربية المتحدة تقدم للعالم اليوم أنموذجاً فريداً للاهتمام بالكتب، وكل ما من شأنه إعلاء قيمة القراءة والثقافة والعلوم بمفهومها الشامل. لذلك نعتقد أنه لو ظهر «بيروز» في عصرنا هذا لقال إن عاصمة العالم بعد الطوفان لن يكون اسمها إلا: دولة الإمارات العربية المتحدة.
المصدر: البيان