كاتب و ناشر من دولة الإمارات
خاص لـ هات بوست:
«أعمق الأشياء في الإنسان لا تُقال.» — نيتشه
ما يشغلني في الإنسان ليس ما يقوله، بل ما يصمت عنه. هناك شيء عميق في دواخلنا ليس في استطاعته الخروج إلى النور، لا لأنه عار أو خطيئة، بل لأنه هشّ وقابل للكسر إلى درجة أننا نخشى عليه حتى من الكلمات ونظرات الآخرين.
مع الوقت فهمت أننا لا نواري كي نخدع الآخرين، بل لأن الصراحة قاسية عندما تُقال بشكل مباشر . ولهذا نرتّب وجوهنا كما نرتّب البيت قبل زيارة مفاجئة: أقنعة جاهزة، مطمئنة، تبدو قادرة على احتمال الواقع و الحياة. لكن في دواخلنا شيء مختلف تمامًا؛ شيء مضطرب ومقلق يبحث عن الاستقرار، كأنه واقف عند باب معلّق؛ لا يجرؤ على طرقه ولا يستطيع الخروج و لا الدخول.
أدركت معنى الخفاء أكثر عندما قال لي طبيب صديق مرة: “أعرف نظرات الموت على المرضى.” سألته بفضول : هل تخبرهم؟ فابتسم بهدوء وقال: “من قال لك إن الحقيقة تكون أفضل حين تُقال في هذا المكان والزمان؟
بعض الحقائق تُقال مرة واحدة… ولا يمكن سحبها بعدها.”
تذكّرت كانط وقتها، ذلك الفيلسوف الذي كان يرى أن الكذب محرّم دائمًا، حتى حين يكون الصدق قاسيًا أو مدمّرًا. بالنسبة لكانط، الحقيقة واجب مطلق لا يتغيّر، حتى لو أدت إلى ألم لا ضرورة له.
لكن الطبيب أمامي لم يكن يعيش في عالم الفلسفة الصارمة، بل في عالم البشر… عالم هشّ لا يحتمل اضواء الحقيقة. عندها فهمت أن التخفي ليس دائمًا خوفًا، وأن الصمت قد يكون أحيانًا أعمق من الكلام. والطبيب الذي يقول لمريضه: “كل شيء سيكون على ما يرام”، رغم علمه بالحقيقة، لا يكذب… بل يختار الرحمة على الصدق. هذا ليس قناعًا، بل فهمٌ لطبيعة الإنسان وقدرته المحدودة على تحمّل الصدمات.
نحن نعيش طوال حياتنا بين صورتين: صورة نظهرها للعالم، وصورة نعرفها نحن فقط. وفي كل يوم نحاول أن نقرّب المسافة بينهما. لأننا نعلم أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بوجه واحد فقط. نظل دائمًا معلقين في الممرّ الضيق بين الوجوه و الأقنعة… الممرّ الذي يشبهنا أكثر من أيّ وجه نُظهره، وأصدق من أيّ قناع نُخفيه
