إعلامي وكاتب اقتصادي
قبل 30 عاماً أو أكثر، كانت بعض البيوت السعودية إن لم تكن جميعها تشتكي من انضمام أحد أفرادها إلى الجهاديين والمقاتلين ضد القوات الروسية أو الاتحاد السوفيتي حينذاك التي احتلت أفغانستان واستمرت الحرب 10 أعوام، وعلى رغم أن الكثير من السعوديين آثروا وقتها للحديث عن أبنائهم الذين فجأة تركوا أعمالهم ووظائفهم واندفعوا إلى ساحات القتال بعد أن ساعدت في تأجيج واشتعال حب الجهاد المنابر والمساجد وفصول الدراسة وحلقات القرآن الكريم، بل إن إعلان الجهاد كان يصدر جهاراً من بعض العلماء والمشايخ، وقتها لم تكن الجهات الحكومية متيقظة ومدركة لأبعاد هذا التوجه. هذا الأمر حينها مزق المجتمع السعودي وفكك وشائجه وتباينت الآراء ما بين حقيقة المشاركة في الحرب والانضمام مع المقاتلين.
هذا الاندفاع الكبير من الشباب السعودي نحو القتال في المواقع الساخنة والانضمام إلى جماعات مقاتلة، وضع السعودية في موقف محرج، خصوصاً وأنها جاءت مع طفرة التنمية وفورة الانتعاش الاقتصادي الذي تعيشه والذي كان من المفترض أن يعكس صورة إيجابية عن التنمية في البلاد من صحة وتعليم ومهن وخلق فرص عمل، فسواعد الشباب التي التحقت بالتعليم في مجالاته كافة وجدت نفسها في نهاية المطاف تستسلم لأفكار مضللة، الهدف منها ضرب التنمية السعودية وخلق فجوة كبيرة بين التنمية والشباب.
وجدت السعودية أن كل ما تبذله من أجل الشباب ومستقبله يذهب هدراً مع الإقبال الكبير على التأييد للأفكار المضللة، فيما يمارس بعض المشايخ والعلماء ضد توجهات الدولة وخططها التنمية، فحينما اندلعت الحرب العراقية – الإيرانية، لم يشارك أي سعودي في هذه الحرب على رغم موقف المشايخ من الشيعة ومحاولة وضع حواجز وهمية، مع ذلك حينها بقيت ساحة القتال بين العراق وإيران فقط استهلاكاً إعلامياً للخسائر والانتصارات الوهمية.
حينها رأت القيادة السعودية أن الطريقة الوحيدة لمعالجة مشكلة التطرف الديني والفكري، هو فتح باب الابتعاث والتحصيل العلمي في الجامعات المعتمدة في الخارج واختيار الأجود منها وبمعايير عالية، وأنفقت عليه مبالغ باهظة، هذه الخطوة في البداية أربكت المؤسسات الدينية وأصحاب الفكر الضال، وأصبحوا لا يتوقفون عن ذكر مساوئ الابتعاث والتعليم، وعارضوا افتتاح أقسام وتخصصات نسائية ومارسوا كل أنواع التقليل من التمدد الحضاري والعلمي حتى وصل الأمر إلى تشكيل مجموعات وتنفيذها بطريقة احترافية، فمجموعة كانت تزور وزير العمل، وآخرون يهددون وزير التعليم العالي ومسؤولين آخرين، وجدت الدولة ومؤسساتها أن خطط التنمية بدأت تنفلت من يدها، خصوصاً وأنها تعتمد بشكل كبير على الشباب والكفاءات الواعدة.
مشروع الابتعاث الخارجي الذي انطلق بقوة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، كان بمثابة الضربة القوية التي وجهت التيارات الإسلامية المتشددة في السعودية، وللمرة الأولى تسمع أن الشباب السعودي يتحدث عن أبحاثه ودراساته وتجاربه العلمية وأيضاً منافسته لخبرات أجنبية.
انطلقت التجربة لخمسة أعوام، ومع النجاح الذي تحقق، أمر الملك بتمديد فرص الابتعاث لكل من لديه الرغبة في إكمال تعليمه، ومن يدرس في الخارج على حسابه الخاص يضم إلى برنامج مشروع خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، وتبع هذه الخطوات فتح جامعات جديدة وأقسام مختلفة وتخصصات علمية، من 7 جامعات حكومية أصبحت الآن 24 جامعة فضلاً عن جامعات أهلية وكليات متخصصة، كان هذا الرد البليغ للمد الديني المتشدد، وكان لإنشاء جامعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للعلوم والتقنية مفاجأة كونها جاءت مغايرة ومختلفة عن الجامعات السعودية الموجودة، واختيار مدير أجنبي لها وأنفق لبناء هذه الجامعة أكثر من 12 بليون ريال.
أرادت السعودية من خلال برنامج الملك عبدالله إقناع العالم، بأن الإرهاب والفكر المضلل لا يبني الدول وأن برامج التنمية مخصصة للمواطنين، وجاء الإعلان عن المرحلة الـ10 من مشروع الابتعاث والابتعاث الداخلي، وهي القشة التي قصمت ظهر البعير، على رغم تجاوب بعض الشبان مع الدعوات التي أطلقها مضللون من جماعات عدة، ولا يزال مروجو الفكر المتشدد يواصلون محاولاتهم التي تصطدم بخطوات قوية من الدولة، نعم هناك تراجع وهناك وعي في أوساط الشباب، الآن نتيجة أن الكثير يدغدغون مشاعر السعوديين بالحس الديني وهو الموضوع الذي بقي لأعوام الطريقة الوحيدة لاستدراج السعوديين نحو المزيد من الفتنة والطائفية وتهييجهم للذهاب إلى مواقع الأحداث.
اليوم حينما تأتي سيرة الشاب السعودي، فأول ما يتبادر إلى الذهن أنه انتحاري، وفوضوي، يحب القتال بشراسة، وينفذ أي عمل يطلب منه، لا يفكر بإيجابية، ينتقد، اتكالي، إنما الصورة الجميلة تأتي من أكثر من 14 دولة تستقبل ما يقارب 250 ألف طالب وطالبة، غادروا بلادهم من أجل تحصيل العلم والمعرفة، هؤلاء يسهمون في إظهار الصورة المضيئة لأبنائنا وبناتنا، وأيضاً رسل سلام ومحبة إلى العالم.
إننا مثل كل العالم، يهمنا أن نتطور ونتقدم ونتحسن ونهتم بالشباب والبنات، وعزز الملك عبدالله أفكاره للتنمية والاستثمار في الشباب باعتماد بناء 11 ملعباً ومدينة رياضية، وتقديم كل التسهيلات للمبتعثين من تأمين طبي وزيادة المخصصات والمكافآت وغيرها من الإمكانات.
كان لابد للحكومة من أن تتخذ هذا القرار وهو فتح باب الابتعاث إلى الخارج والمنح الدراسية داخلياً، وهي مرحلة طويلة لتحسين صورة السعودية في الخارج عن الشباب السعودي، الذي اختطفه المضللون والمتشددون.
يُطلب من وزارة التعليم العالي أن تطور برامج الابتعاث من حيث إقامة فعاليات وأنشطة ترسل رسائل واضحة إلى دول العالم، والأهم من هذا اكتشاف مناطق ودول تعليمية أخرى وتخصصات علمية جديدة، الأمر أيضاً يحتاج إلى معاملة خريجي الجامعات السعودية بنفس الاحتفاء وبنفس المعايير والمواصفات كما احتفلت به الملحقية الثقافية في أستراليا بحفلة تخريج دفعتها لعام 2014، والذي أقيم في مركز المؤتمرات والمعارض في مدينة برزبن الأسترالية، فيما كانت تتعالى زغاريد الأمهات وتصفيق الآباء وفرحة الإخوة والأخوات بالخريجين، كانت هناك قلوب حاقدة وحاسدة كانت تتآكل من الداخل، وهي ترى أن الشباب يشقون طريقهم نحو مستقبلهم وبناء وطنهم، فكلما طُرح مشروع تنموي لشبابنا فهو طعنة في خاصرة الجهلة والمروجين لبناء وطن يحمي الجميع ويحتويهم.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Jamal-Bnoon/4063733