أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
من المبررات التي ساقتها إدارة أوباما كي تقنع المشرعين والمواطنين الأميركيين، إضافة إلى اللوبي الإسرائيلي القوي، بفوائد الصفقة: أنها تساهم في إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، وتعطي فرصة استثنائية لطهران لتطوير اقتصادها وبالتالي توفير حياة أفضل لشعبها، وأنها ستـُحّول حكومة طهران من حكومة مارقة ومتمردة على الشرعية الدولية إلى حكومة متعاونة ومنخرطة ومنسجمة مع قوانين المجتمع الدولي ومعايير حقوق الإنسان.. وأنها ستتيح الفرصة لإيران كي تصبح قوة إقليمية لا غنى عنها في صياغة حاضر ومستقبل منطقة الشرق الأوسط، بل وربما اعتمادها كشريك في بناء التوافقات المستقبلية حول قضايا إقليمية ودولية؛ مثل مكافحة الإرهاب، وتحقيق السلام بين الإسرائلييين والفلسطينيين، وإخماد الحروب والتوترات المشتعلة في مناطق شرق أوسطية لإيران نفوذ فيها.
لا جديد.. مبررات واهية
المبررات الأميركية لتسويغ الصفقة النووية لم تكن سوى أمنيات وأوهام؛ فتدخلات إيران في دول التعاون الخليجي عبر شبكاتها الإرهابية تضاعفت، بدليل الحوادث الإجرامية في البحرين والكويت والسعودية، والتي تبين أن مقترفيها تم تجنيدهم وتدريبهم على أيدي جماعات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، دعك من قيام الإيرانيين بتطوير حقل الدرة النفطي الكويتي المتنازع عليه دون التشاور مع الكويتيين، كما أن مواقف الأنظمة والجماعات التي تدعمها إيران، زادت تصلباً ورعونة؛ وآية ذلك ازدياد المجازر التي يرتكبها نظام الأسد في سوريا، واستمرار جرائم الحوثيين في اليمن، وبقاء «حزب الله» اللبناني عقبة دون انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، أما في الداخل الإيراني فاستمرت الأوضاع على حالها؛ بما فيها انتهاكات حقوق الإنسان، وازدياد حالات الإعدام، وتواصل تكميم الأفواه، وإبقاء القادة الإصلاحيين قيد الاعتقال والإقامة الجبرية.
نحاول في هذه المقاربة الرد على بعض أهم التساؤلات التي ثارت عقب الإعلان في فيينا، يوم الرابع عشر من يوليو المنصرم، عن توصل مجموعة 5+1 وحكومة طهران إلى صفقة حول البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل، وذلك إثر جولات ماراثونية من المفاوضات الصعبة التي استغرقت وقتاً طويلا، استخدم خلالها الطرفان كل أسلحتهما الدبلوماسية، بل كل ما كان تحت أيديهما من أوراق ضغط.
وقبل أن نستعرض تلك الأسئلة، لابد من التأكيد على أن طهران عملت كل ما في وسعها للوصول إلى الصفقة المذكورة التي اعتبرتها مسألة حياة أو موت، لأسباب كثيرة منها: أنها تعني اعترافاً ضمنياً من المجتمع الدولي بمكانتها كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها في موازين القوى، ناهيك عن أنها تكرس عضويتها في النادي النووي مع الكبار، وتحفظ لها قدراتها العلمية والتقنية، وتمنحها حق ممارسة التخصيب بنسبة معينة. ومنها أنها طوق نجاتها للتغلب على مشاكلها الاقتصادية المتفاقمة جرّاء عقود من العقوبات الاقتصادية الدولية التي فـُرضت عليها من قبل مجلس الأمن في 26 ديسمبر 2006 بموجب القرار رقم 1737 جرّاء إصرارها على تطوير برنامجها النووي بمعزل عن قواعد واشتراطات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خصوصاً أن الصفقة الموقعة في فيينا تضمن إفراج واشنطن وبقية العواصم الغربية الأخرى عن نحو 150 مليار دولار من الأموال الايرانية المجمدة في المصارف الغربية، كما أن من شأنها إعادة إيران إلى أسواق النفط العالمية على نحو أقوى ومن أوسع الأبواب. كما أن الصفقة تعطي حكومة الرئيس روحاني، الذي أسبغ على نفسه صفة الرئيس الإصلاحي، ووعد شعبه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بمستقبل أفضل، بعضَ المصداقية التي قد تنفعه جماهيرياً للبقاء في السلطة فترة رئاسية ثانية. علاوة على كونها تفتح الباب لطهران كي تصلح علاقتها مع الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل تلهف إدارة الرئيس باراك أوباما على تغيير تحالفات بلاده الإقليمية في منطقة الخليج العربي، وفق سياسة مفادها الرهان على الإسلام الشيعي مقابل الإسلام السني السلفي المتهم بالإرهاب، وإن ادعت واشنطن خلاف ذلك في اللقاءات الدبلوماسية والبيانات المشتركة، وفي هذا السياق، لابد من التذكير بأن أوباما وصف الاتفاقية بالحدث التاريخي، فيما رد عليه نظيره الإيراني بالقول إنها حدث يفتح باب الثقة بيننا تدريجياً.
ومن هنا لم يكن غريباً أن يسعى الرئيس الإيراني حسن روحاني وطاقمه الدبلوماسي، بقيادة وزير خارجيته محمد جواد ظريف، ومنذ اليوم الأول لوصوله إلى سدة الرئاسة في طهران، إلى فتح قنوات اتصال سرية مع «الشيطان الأكبر» (الولايات المتحدة)، وتفعيل القناة الموازية المتمثلة في الوسيط العماني من أجل إتمام الصفقة المذكورة. وعلى الرغم مما خيّم على الاتصالات والمفاوضات السرية من أجواء البطء والتشاؤم والضجر والخشية من الفشل، فإنها استمرت وتواصلت دون كلل أو ملل.
وبالمثل لم يكن غريباً أن يبادل الأميركيون نظراءهم الإيرانيين الحرص على إنجاح المفاوضات وصولا إلى إتمام الصفقة، تدفعهم إلى ذلك الرغبة والحرص والإصرار على تحقيق إنجاز يتيم لرئيسهم أوباما كي يختتم به عهده في البيت الأبيض، والذي تميز بإخفاقات في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، لاسيما في سوريا والعراق وأوكرانيا. ومن المفيد أن نشير هنا إلى أنّ المفاوض الأميركي استثمر في مهمته الشاقة هذه جهود حلفائه الغربيين، إضافة إلى جهود غريميه الروسي والصيني، اللذين أقنعتهما واشنطن بمكاسب اقتصادية سريعة في حال إتمام الصفقة، وبالتالي رفع العقوبات عن طهران، رغم حقيقة أن رفع العقوبات عن إيران وعودتها بالتبعية إلى أسواق النفط ستؤدي إلى انهيارات في أسعار الطاقة وبالتالي ستكون لها آثار سلبية على الاقتصاد الروسي تحديداً. وإذا كانت المكاسب التي سيجنيها الروس من الاتفاقية تتمثل في بيع أسلحتهم المتطورة لإيران، فهاهي واشنطون تعترض وتهاجم الصفقة التي تم توقيعها مؤخراً بين موسكو وطهران حول تسليم الأولى للثانية المنظومة الدفاعية «إس 300».
آمال وآمال مضادة
قلنا إنّ أسئلة كثيرة طـُرحت حول تداعيات صفقة فيينا على موازين القوى في منطقة الخليج، وهي المنطقة شديدة الحيوية لاقتصادات العالم، وعلى شكل العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية، وعلى السياسات الخارجية لإيران في المستقبل، لاسيما سياساتها إزاء بؤر الأزمات في اليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وعلى الوضع العام والصراع على السلطة والنفوذ بين «الإصلاحيين» و«المحافظين» داخل إيران ذاتها.
الولايات المتحدة، بطبيعة الحال، دافعت عن الصفقة بمبررات يمكن دحضها بسهولة، ومن المبررات التي ساقتها إدارة أوباما كي تقنع المشرعين والمواطنين الأميركيين، إضافة إلى اللوبي الإسرائيلي القوي، بفوائد الصفقة: أنها تساهم في إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، وأنها تعطي فرصة استثنائية لطهران لتطوير اقتصادها وبالتالي توفير حياة أفضل لشعبها، وأنها ستـُحوّل حكومة طهران من حكومة مارقة ومتمردة على الشرعية الدولية إلى حكومة متعاونة ومنخرطة ومنسجمة مع قوانين المجتمع الدولي ومعايير حقوق الإنسان، وأنها ستتيح الفرصة لإيران كي تصبح قوة إقليمية لا غنى عنها في صياغة حاضر ومستقبل منطقة الشرق الأوسط، بل وربما اعتمادها كشريك في بناء التوافقات المستقبلية حول مجموعة من القضايا الإقليمية والدولية؛ كمكافحة الإرهاب، وتحقيق السلام بين الإسرائلييين والفلسطينيين، وتوحيد الجهود في إخماد الحروب والتوترات المشتعلة في مناطق شرق أوسطية لإيران نفوذ فيها.
وقد ثبت سريعاً في الفترة التالية لتوقيع صفقة فيينا أنّ المبررات الأميركية لم تكن سوى أمنيات وأوهام؛ فتدخلات إيران في دول مجلس التعاون الخليجي عبر شبكاتها الإرهابية تضاعفت، وذلك بدليل الحوادث الإجرامية التي وقعت في البحرين والكويت والسعودية، والتي تبين أن المتورطين فيها تم تجنيدهم وتدريبهم على أيدي جماعات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني في لبنان والعراق وسوريا، دعك من لجوء الإيرانيين إلى تطوير حقل الدرة النفطي الكويتي المتنازع عليه دون التشاور مع الكويتيين، كما أن مواقف الأنظمة والجماعات التي تعمل إيران على حمايتها ودعمها واستمرارية نفوذها وتغولها، زادت تصلباً ورعونة، وآية ذلك ازدياد المجازر التي يرتكبها نظام الأسد في سوريا، واستمرار مشاغبات وجرائم الحوثيين في اليمن، وبقاء «حزب الله» اللبناني عقبة في طريق انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، أما في الداخل الإيراني فقد استمرت الأوضاع على حالها؛ بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان، وازدياد حالات الإعدام، وتواصل تكميم الأفواه، وإبقاء القادة والرموز الإصلاحيين قيد الاعتقال والإقامة الجبرية، وتمتين السلطة المطلقة للولي الفقيه.
وإلى ذلك، ثبت أنّ سماح القوى الكبرى لإيران بامتلاك قدرات نووية تسبب في إثارة مخاوف قوى إقليمية عدة في منطقة الخليج، مما نجد تجلياته في مسارعة عدد من هذه القوى إلى توقيع اتفاقيات تسلح مع دول كروسيا وفرنسا، وقد سارعت واشنطن لمحاولة التخفيف من آثار هذه التطورات بتحذير حلفائها الخليجيين من نتائج عقد صفقات نووية أو صفقات تسليح، قائلة إن ذلك سيتسبب في توتر العلاقات العسكرية والأمنية الخليجية الأميركية.
وقد خذل الإيرانيون الرئيس أوباما الذي كان قد قال في تصريح له إن إيران قد تتغير، مشيراً إلى أن بلاده سوف تكون في موضع أقوى لتنفيذ ذلك، إذا ما تم الانتهاء تماماً من ملف القضية النووية، مضيفاً القول: «إذا استطعنا تنفيذ ذلك، سوف يمكن لإيران، بعد الاستفادة من مكاسب تخفيف العقوبات الدولية، البدء في التركيز على الاقتصاد وعلى شعبها. وتبدأ الاستثمارات في التدفق، وتبدأ البلاد في الانفتاح على العالم». وبينما لم تكن الأحبار التي كتب بها الاتفاق النووي قد جفت بعد، كان المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، يبعث برسالة إلى الرئيس روحاني، يأمره فيها بتخصيص نسبة 5٪، على الأقل، من ميزانية البلاد الدفاعية لـ«زيادة القدرات الدفاعية على مستوى القوة الإقليمية، من أجل تحقيق المصالح والأمن القومي»، وبالتزامن مع هذا القرار راحت إيران تقدم ضماناً ائتمانياً لبشار الأسد في سوريا، لتخفيف الضغوط الاقتصادية على نظامه المنهمك في سفك دماء شعبه وتدمير بلده. فإذا كان كل هذا قد حدث قبل تحرير مليارات إيران المجمدة في الغرب، فماذا عساه يحدث بعد تحريرها، فيما يخص دعم الأنظمة والجماعات المارقة العاملة لحساب الأجندات والأطماع الفارسية في الشرق الأوسط؟
مخاوف خليجية
إن ذلك يعني ببساطة أن المخاوف التي أبدتها دول مجلس التعاون الخليجي، وتحديداً المملكة العربية السعودية، من التداعيات السلبية لصفقة فيينا على الأمن والاستقرار في منطقة الخليج وامتداداتها، خصوصاً مع وجود بنود سرية في الصفقة لم يكشف النقاب عنها، وقد تشمل إطلاق يد إيران في المنطقة مقابل تكبيل يد الرياض عسكرياً.. كانت مخاوف مبررة وفي محلها، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار قدرة إيران على استخدام نفوذها المذهبي في العراق وسوريا واليمن والكويت والبحرين، للإضرار بالمصالح السعودية، وفي ظل انشغال بلد عربي كبير وحليف للسعودية ولشريكاتها الخليجيات، هو مصر، بمشاكله الداخلية.
والجدير بالذكر في هذا المقام أن الرياض كانت قد حذرت مبكراً من النتائج الوخيمة لأي صفقة غير صارمة مع طهران حول الملف النووي للأخيرة، على الأمن والاستقرار في المنطقة، حدث ذلك في عهد المغفور له الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز الذي يُروى أنه أبلغ المبعوث الأميركي الزائر «دينيس روس» رسالة واضحة مفادها أن السياسة الأميركية تجاه إيران مبنية على آمال ورغبات وليس على أسس واقعية، بل حذّره من النتائج السيئة للطريقة الأوبامية في التعاطي مع شؤون المنطقة، وذلك في إشارة إلى تلهف الرئيس أوباما لرؤية إيران وقد كسرت عزلتها وصارت قوة إقليمية ناجحة وشريكة للولايات المتحدة.
الولع بإيران!
ومثل هذا التلهف لم يكن مجرد فرضية، وإنما كان ضمن إستراتيجية وعقيدة تبناها أوباما منذ اليوم الأول لجلوسه على المكتب الرئاسي في البيت الأبيض، حيث يشير «مايكل دوران»، كبير الباحثين في معهد هيدسون للأبحاث، والذي سبق أن عمل نائباً لمساعد وزير الدفاع الأميركي ومديراً لمجلس الأمن القومي، في دراسة مطولة، إلى أن إعادة تأهيل إيران للقيام بدور في الشرق الأوسط والعالم كشريك وكحليف للولايات المتحدة في قضايا استقرار العراق وهزيمة الجماعات الجهادية السنية، مسألة احتلت مكاناً بارزاً في فكر أوباما الإستراتيجي. أما الأساس الذي يستند إليه الرئيس الأميركي في تقاربه مع إيران فهو -بحسب كلام دوران- أن طهران وواشنطن كانتا حليفتين طبيعيتين، وأن واشنطن هي المسؤولة عن تحول التحالف إلى حالة عداء خلال العقود الثلاثة الماضية، وبالتالي فإن مدت واشنطن اليد إلى طهران فإن الأخيرة سوف ترد التحية بأفضل منها، وليفعل الحلفاء التقليديون الآخرون في المنطقة ما يحلو لهم، لأنهم لا يملكون ما تملكه إيران من «مواهب غير معقولة وموارد ومهارات محلية». والجملة الأخيرة قالها أوباما في تصريح له مؤخراً.
ما لا يفهمه الأميركيون جيداً، أو بالأحرى يفهمونه جيداً لكنهم يغضون الطرف عنه لأسبابهم الخاصة، أو بتأثير من اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة، أو لأسباب تتعلق بما يكنّه أوباما من إعجاب وولع شديد بإيران، كما سبق بيانه، أن طهران لن تتخلى عن أحلامها بامتلاك السلاح النووي.
البيئة المواتية
إذا كان هذا الحلم قديماً ويعود إلى زمن الشاه محمد رضا بهلوي الذي يُعزى إليه وضع اللبنات الأولى للمشروع النووي الإيراني بمساعدة أميركية في خمسينات القرن الماضي، من أجل إثبات تفوق العرق الآري الفارسي وتكريس دوره كشرطي في الخليج يحمي المصالح الأميركية والغربية في المنطقة، فإن خلفاءه المعممين يستميتون من أجل ذلك لأسباب أخرى لها صلة بعقيدتهم المذهبية، لكنها أشد خطراً من تلك التي أفصح عنها علناً الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في أكثر من مناسبة. فنظام ولاية الفقيه الإيراني الحالي يسعى إلى خلق بيئة مواتية ترفرف عليها أعلام النصر والتفوق لاستقبال «المهدي المنتظر»، وبالتالي فإن ما يحقق له ذلك ليس سوى سلاح يهدد به دول الجوار السنية، وفي الوقت نفسه يبعث نشوة النصر في قلوب الأنصار والتابعين من شيعة دول المنطقة وامتداداتها في الشرق الأوسط.
وهكذا فإن الاتفاقية التي وقعت عليها طهران في فيينا مع مجموعة 5+1، ليست سوى وسيلة لخداع المجتمع الدولي وكسب الوقت وتأجيل العقوبات إلى حين، مثلما دأبتْ على ذلك طوال السنوات التالية لانتصار ما يسمى «الثورة الإسلامية» في عام 1979. وفي هذا السياق تجدر بنا الإشارة إلى أن برنامج إيران النووي كان قد قطع شوطاً كبيراً وقت الإطاحة بالشاه، لكن الأخير بدا في فترة من الفترات غير مكترث بتطويره، ربما كنتيجة لقناعته بأن استخدام السلاح النووي أو مجرد التلويح باستخدامه له تبعات وخيمة، وبالتالي فهو مجرد رادع مكلف ليس إلا. كما تنبغي الإشارة أيضاً إلى أن الإمام الخميني هو مَن أوقف ذلك البرنامج عبر فتوى حرّم بموجبها السلاح النووي، لكن تلك الخطوة لم تكن إلا واحدة ضمن خطوات تكتيكية أخرى اتخذها في بدايات نجاح ثورته كي يكسب تعاطف «الشعوب المكتوية بالديكتاتوريات». والدليل أنه عاد وسمح بتطوير قدرات إيران النووية بالتعاون مع باكستان بعيد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في عام 1988، تماماً مثلما تراجع عن وعوده للشعب الإيراني بنظام ديمقراطي تعددي حر، وإزالة المعتقلات والسجون الرهيبة، وتسريح رجال الاستخبارات، ومنح الأقليات غير الفارسية حقوقها ضمن الكيان الإيراني. وفي عهد خامنئي، الذي تولى من بعده منصب المرشد الأعلى للثورة، وتحديداً في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، ازدادت وتيرة تعاون طهران مع كل من موسكو وبكين في مجال تخصيب اليورانيوم اللازم لصناعة السلاح النووي، وكذلك في معالجة البلوتونيوم الناتج من مفاعلات الطاقة لتحضيره للاستخدام العسكري، الأمر الذي أثار الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومعها الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات. وقتها، كانت إيران في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، الذي حاول التوصل إلى حل للملف النووي لبلاده مع نظيره الأميركي آنذاك بوش الابن. غير أن محاولاته لم تجد آذاناً صاغية من قبل واشنطن بحجة انعدام الثقة في النظام الإيراني. وحينما وصل أوباما إلى البيت الأبيض، بضعفه وسياساته الخارجية المترددة، وعقدته من أسلوب سلفه لجهة استخدام القوة في الملفات والأزمات الدولية والإقليمية، وجدت فيه طهران الشخص المناسب الذي يمكن المراهنة عليه للخروج من أزماتها المستعصية بشيء من الحذاقة والدهاء والصبر الذي يجيده صانع السجادة الفارسية. وهكذا جرت المفاوضات النووية وما أفضت إليه من اتفاقية فيينا التي حققت إيران من خلالها مكاسب عدة عبر استخدام برنامجها النووي كوسيلة ابتزاز لنيل الاعتراف بدورها ومكانتها في موازين القوى الإقليمية، أو بعبارة أخرى إعادة تأهيلها كقوة من قوى المجتمع الدولي ذات ثقل اقتصادي وديموغرافي وحضاري، ناهيك عن وزنها العسكري والتقني الذي لن يمسه ضرر كبير.
ثغرات ورابحون
إذا كانت اتفاقية فيينا تشتمل على نقاط تضمن رقابة دولية على عملية تخصيب اليورانيوم، لقطع الطريق على أي مسعى إيراني لتصنيع السلاح النووي، فإن هناك الكثير من الوسائل التي تجيدها إيران ببراعة للتهرب من الرقابة النووية الدولية، خصوصاً مع وجود ثغرات عديدة في اتفاقية فيينا يمكن لإيران استخدامها لخرق ما وقّعت عليه، ويتضح ذلك إذا ما قرأنا الاتفاقية قراءة متأنية.
وقد أتى المحلل «روبرت ساتلوف»، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن، على ذكر تلك الثغرات بالتفصيل في مقال له بصحيفة «نيويورك ديلي تايمز» (14 /7/ 2015). ومنها أنه أمام إيران مدة 24 يوماً لتأخير أي عملية تفتيش لمنشأة نووية ما قد تطلبها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. هذا مع العلم أن هناك الكثير من الأنشطة النووية غير المشروعة التي يمكن للإيرانيين إبعادها عن أنظار المفتشين في غضون إشعار مدته 24 يوماً، ومن الثغرات كذلك أن عقوبة واحدة ستـُوقع على إيران، سواء أكانت مخالفتها للاتفاقية كبيرة أم صغيرة، وهي إحالتها إلى مجلس الأمن الدولي لإعادة فرض العقوبات الدولية عليها. وهنا سوف تبرز مشكلة أخرى تتعلق بما إذا كانت إعادة فرض العقوبات ستشمل الصفقات الموقعة بين طهران والأطراف الأخرى خلال الفترة بين توقيع اتفاقية فيينا وخرق بنودها؟ لذا رأينا كيف سارعت الحكومة الإيرانية إلى إبرام صفقات عديدة مع دول مثل روسيا والصين وبعض الشركات والمؤسسات الغربية بمجرد الانتهاء من حفل التوقيع في العاصمة النمساوية. «وجميع هذه الصفقات مصممة بطريقة تحمي إيران من تأثير إعادة فرض العقوبات المحتملة، مما يضعف بالتالي تأثير العقوبات»، على حد قول ساتلوف.
بعض المراقبين كتبوا يقولون إن المستفيد الأكبر من اتفاقية فيينا هو دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك بناء على تحليل مفاده أنه لولا هذه الاتفاقية لعانت دول الخليج العربية من رعب دائم، خصوصاً مع استحالة وقف البرنامج النووي الإيراني عبر عمل عسكري قد يؤدي إلى كارثة بيئية وإنسانية كبرى في المنطقة لا مجال لكبحها، مثل هذا التحليل، وإن كان صحيحاً، فمن الصحيح أيضاً أن حالة عدم الثقة بين إيران وشريكاتها العربيات في بحيرة الخليج، سوف تزداد وتتعمق بوجود جار باركت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي رسمياً تحوله إلى قوة نووية تحت مبررات سبق لنا دحضها، بل ثبت عدم صمودها.
والمستفيد الآخر – طبقاً لأولئك المراقبين- هو إسرائيل التي يقولون إن اتفاقية فيينا تضمن بقاءها كدولة نووية وحيدة في منطقة الشرق الأوسط، لكنها تكابر وترفض الاتفاقية في محاولة لابتزاز الولايات المتحدة. وبطبيعة الحال فإن الولايات المتحدة تبدو مستفيدة هي الأخرى، لأن الاتفاقية سوف تعطيها مزيداً من المرونة والموارد للتعاطي مع التحديات التي تواجهها في أوروبا والشرق الأقصى، لاسيما من قبل الصين الصاعدة بقوة والتي من المؤكد أنها سوف تستثمر رفع العقوبات عن طهران لتعزيز موقعها في الشرق الأوسط، على نحو ما ستفعله موسكو أيضاً، بل إن الصين تبدو في وضع أفضل لجني المكاسب، لاسيما فيما يتعلق بمشروع إعادة إحياء «طريق الحرير»، وهو مشروع ذو بعد إستراتيجي للصين، وكانت إحدى العقبات التي تواجه تنفيذ شقه المتعلق بالنقل والطاقة هي العقوبات المفروضة على طهران والتي تحررت منها الآن.
لكن الواضح من تتبع مجريات مفاوضات إيران مع مجموعة 5+1، والبنود المعلنة لاتفاقية فيينا أن الرابح الأكبر هو النظام الإيراني، خصوصاً أن الولايات المتحدة الأميركية قدمت التنازل تلو التنازل للإيرانيين كي تتم الصفقة. فالهدف المرسوم للمفاوضات في البداية كان يستند إلى تخفيف العقوبات الدولية المفروضة على طهران مقابل رضوخ الأخيرة لإنهاء برنامجها النووي المثير للشك والريبة. لكن بمرور الوقت تنازلت واشنطن أولا لصالح حصول الإيرانيين على المفاعلات النووية شريطة عدم تطوير قدراتهم في مجال تخصيب الوقود النووي، ثم تنازلت ثانياً لصالح السماح لهم بالتخصيب شريطة أن يكون ذلك ضمن رقابة صارمة، وأخيراً تنازلت لهم عن موعد فرض الرقابة الصارمة بتأجيله إلى مرحلة لاحقة.
ومجمل القول هو أن المفاوضات التي كانت في جوهرها تتعلق بتخفيف العقوبات التجارية والمالية، تطورت مع الوقت إلى اتفاقية تحرر طهران من تلك العقوبات وترفع التجميد عن شخصيات ومؤسسات إيرانية مشبوهة، بل وتذهب أبعد من ذلك لتعد بمساعدة من واشنطن وحليفاتها الغربيات لإيران في مجالات الطاقة والتمويل والتكنولوجيا والتجارة، لتصبح بلداً أكثر نمواً وازدهاراً، دون أن يقترن هذا بأدنى ضغط على النظام الإيراني لجهة وقف دعمه للجماعات الإرهابية في الخليج والشرق الأوسط، أو لتغيير سلوكه حيال دول المنظومة الخليجية ولبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة، أو لإجباره على مراعاة حقوق الأقليات ومبادئ حقوق الإنسان عموماً داخل الأراضي الإيرانية. كل ذلك مقابل نظام رقابة مبهم مليء بالثغرات يتيح قدراً محدوداً من الرصد والتحقق لجهة منع طهران من الوصول إلى عتبة امتلاك سلاح نووي كامل.
نشوة الانتصار
بقي أن نقول إن السياسات الخارجية الإيرانية، لاسيما تجاه دول الخليج العربية، لن تتغير إلى الأفضل، لأنها قائمة على مبادئ تصل إلى مرتبة القداسة بسبب صياغتها من قبل المرشد الأعلى، وعلى رأس هذه المبادئ مبدأ تصدير الثورة إلى دول الجوار والتدخل في شؤونها عبر الادعاء بوجود مظالم ضد مواطنين شيعة في هذه الدول، بل ربما يحدث العكس بفعل نشوة الانتصار التي تشعر بها دوائر صنع القرار في طهران، وبمعنى آخر فإن هناك احتمالا لأن توسع طهران نفوذها في الساحات التي لها فيها أنظمة أو جماعات موالية، مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين، وذلك على حساب نفوذ الدول المؤثرة في الشرق الأوسط مثل المملكة العربية السعودية التي لم تعد تثق فيما يصدر عن طهران منذ وقت طويل.
ولئن كان إلغاء العقوبات الاقتصادية ضد إيران من شأنه إحداث تغيير في شكل الاقتصاد الإيراني، وتوجيهه نحو وجهة جديدة قائمة على جذب الاستثمارات الأجنبية والتنافسية، وبالتالي تحقيق معدلات نمو أكبر، فإن هذا الأمر لن يحدث بين ليلة وضحاها، بل يتطلب سنوات طويلة سوف يئن خلالها الإيرانيون من البطالة والعوز اللذين قد يستخدمهما التيار المحافظ كورقتين ضد التيار الإصلاحي للقول بأن اتفاقية فيينا لم تأت بالمن والسلوى للشعب الإيراني، وإنها مجرد عملية نصب قادها «الشيطان الأكبر».
أما فيما يتعلق بتداعيات الاتفاقية على العلاقات الإيرانية الأميركية فإن طهران، في ظل الصراع الدائر ما بين الجناحين؛ المحافظ (الذي يرى أن الصراع مع الغرب هو أحد العناصر المكونة لهوية البلاد الثورية) والإصلاحي (الذي يرى أن إيران يجب ألا تبقى في حالة عداء دائمة مع الغرب).. ستقترب من واشنطن بالقدر الذي يحقق مصالحها فقط، وكيلا تتهم بموالاة عدوتها السابقة، وبكلام آخر سوف تتبع مع واشنطن سياسات ومواقف انتقائية لن تصل إلى حالة التنسيق التام في جميع الملفات، على خلاف ما حلم به أوباما وأركان إدارته.
المصدر: الاتحاد