كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة
كل الشعوب تحتفي بشهدائها وتجلّهم، وتضعهم في مكانة رفيعة بين أبنائها، لأنهم ضحوا بأرواحهم من أجل أوطانهم، ولا يملك الإنسان ما هو أغلى من روحه كي يضحي به. ليس ثمة من يختلف على هذا، لكن احتفاء الإمارات بشهدائها..
كما عشناه ورأيناه على مدى الأيام الماضية، ونحن نودع شهداءنا الأبرار إلى جنان الخلد، بإذن الله تعالى، كان مختلفا. لا نقول هذا من باب التفاخر على الشعوب التي تقدر شهداءها وتحتفي بهم على طريقتها، ولا من باب التقليل من غيرنا، وإنما نقوله من باب إحقاق الحق، والاعتزاز بقيادتنا وشعبنا، ومن واقع الإحساس الذي يسري في مشاعرنا كلما تم الإعلان عن ارتقاء شهيد لنا في قائمة مجد قواتنا المسلحة، ويستمر بالزخم نفسه، دون أن يطرأ عليه فتور.
من شاهد التفاف شعب دولة الإمارات العربية المتحدة حول قيادته خلال الأيام الماضية يلمس هذا الإحساس النابع من القلب، ويدرك أنه ليس إحساسا مفتعلا. ومن رأى المشاعر الفياضة التي غمر بها قادة دولة الإمارات وشعبها أهالي الشهداء وذويهم خلال هذه الأيام يعرف مدى قوة اللحمة التي تربط بين أبناء هذا الوطن، قيادة وشعبا، ويلمس الروح التي تجمع بين أبناء هذه الأرض، الذين يشعرون أنهم أسرة واحدة..
لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، تماما كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، أثناء زيارته لمجالس عزاء شهداء الواجب الأسبوع الماضي.
أثبت شعب الإمارات خلال هذه الأيام أنه شعب عظيم، يتعالى على الحزن والألم، ويرتقي إلى مراتب الشرف والنبل عندما يكون الوطن هو الداعي إلى التضحية، وعندما تكون حماية الوطن من الأخطار الخارجية والداخلية هي الهدف من هذه التضحية، وعندما يكون قادة الوطن هم الذين يتقدمون الصفوف، ويشحذون الهمم..
ويرون النصر قادما لا محالة، مهما كانت التضحيات، وليس ثمة ما هو أغلى من دماء شهدائنا الأبرار، الذين سيسجل لهم التاريخ أنهم لم يتخلفوا عن تلبية نداء الواجب أو يتخاذلوا، ولم يخذلوا قادة الوطن وأهلهم وشعبهم، فقدموا أرواحهم رخيصة من أجل حماية هذا الوطن، وفي سبيل مجده ورفعته.
وأثبتت قيادة دولة الإمارات أنها ليست قيادة حكيمة فقط، وإنما هي قيادة رحيمة أيضا، فمشاهد العناق بين قادة الإمارات وأهالي الشهداء في مجالس العزاء، وبين صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وجرحى القوات المسلحة الشجعان في المستشفيات التي زارها سموه، أظهرت لنا بجلاء مقدار الرحمة التي تعمر بها قلوب هؤلاء القادة، إلى جانب الحكمة التي طالما عرفها الجميع عنهم، وأصبحت مضرب المثل في كل مكان، وسمة أساسية من سمات قادة هذا الوطن الذين يعتز بهم ويفخر.
لم تكن زيارات القادة هذه زيارات مجاملة تقليدية، وإنما كانت زيارات مفعمة بالمشاعر الإنسانية والوطنية التي تعمر بها قلوب قادتنا، فألهبت مشاعرنا نحن الجالسين أمام شاشات التلفزيون نتابعها..
وجعلتنا نشعر بالاعتزاز والفخر لأننا ننتمي إلى وطن يحكمه مثل هؤلاء القادة الرحماء، الذين يقبّلون رؤوس الجرحى وأياديهم، ويشعرونهم بالدفء الذي يجعل كل واحد من أبناء هذا الوطن يتمنى لو كان مكانهم؛ وطن يسكنه مثل هؤلاء الرجال الشجعان، الذين يتمنون أن يقوموا من على أسرّتهم ليعودوا إلى ميادين القتال، كي ينضموا إلى إخوتهم هناك، ليأخذوا بثأر الشهداء، ويواصلوا المهمة التي ذهبوا لإنجازها، حتى لو كان الثمن هو دماؤهم وأرواحهم التي يبذلونها رخيصة من أجل رفع راية الوطن، وإعلاء كلمته.
إن أي وصف لما عشناه وشاهدناه خلال الأيام الماضية من تلاحم أبناء الإمارات، والتفافهم حول قيادتهم، يظل قاصرا عن تصوير مدى قوة اللحمة التي تربط بين أبناء الوطن. وحدها المشاهد التي رأيناها على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد، وعشناها على أرض الواقع ونحن نزور أسر الشهداء لتقديم واجب العزاء، وحدها هذه المشاهد والصور خير من يعبر عن الحالة التي تمتاز بها دولة الإمارات العربية المتحدة..
والتي جعلت منها نموذجا فريدا بين الدول، ليس في أوقات الرخاء والنعمة فقط، وإنما في أوقات الأزمات والشدة أيضا، وهي حالة تستحق أن تُدْرَس، وأن ترتفع إلى مستوى الظاهرة، لأنها حالة لا تتكرر كثيرا، وقلّ أن تجد لها مثيلاً أو منافسا بين البلدان والشعوب.
الاحتفاء بالشهداء على هذا النحو ظاهرة إماراتية بامتياز، وعلى من يشكك في هذا أن يعيد استعراض مشاهد الأيام الماضية، وأن يستخلص منها الدروس والعبر، وأن يرى كيف يمكن أن يتحول بلد يمتد على مساحة أكثر من 83 ألف كيلومتر مربع إلى بيت واحد، يجمع تحت سقفه الحكام والشعب بكل فئاته، ليقول للعالم أجمع إن “البيت متوحد” فعلاً لا قولاً..
وإن كل من يحاول اختراق هذه اللحمة الوطنية محكوم على محاولته بالفشل، لأن ما تم بناؤه على أسس راسخة وسليمة يبقى قويا ومتماسكا وصامدا، مهما هب عليه من رياح عاتية..
وكل من يقول غير هذا واهم يخدع نفسه قبل الآخرين، وسيحفظ التاريخ لقواتنا المسلحة مواقف أبنائها النبيلة والشجاعة، والبطولات التي سجلوها في أرض المعركة، وإصرارهم على مواصلة تأدية المهمة التي تم تكليفهم بها، وفاء لقادتهم الذين يعرفون لهم قدرهم، ولوطنهم وشعبهم الذي يفخر بهم.
إن وطناً فيه قادة حكماء رحماء مثل قادتنا، وجنود بواسل أوفياء مثل جنودنا، وشعب مخلص نبيل مثل شعبنا، لهو وطن يستحق منا الثناء.
المصدر: صحيفة البيان