في أيلول (سبتمبر) 1989، أثارت شركة «سوني» اليابانية حفيظة أميركيين كثر بشرائها شركة الإنتاج الهوليوودية الضخمة «كولومبيا بيكتشرز» بـ 3.4 بليون دولار. بعد ذلك بشهرين، ابتاعت «ميتسوبيشي» اليابانية أيضاً حصة الأكثرية في مجمع بنايات «روكفلر الشهير» في مدينة نيويورك بـ 846 مليون دولار. حينها شعر الأميركيون بأن اليابان ثاني أكبر اقتصاد في العالم في ذلك الوقت، كانت في طريقها إلى ابتلاع أميركا والأميركيين الذين سادهم قلق.
والشهر الماضي، اشترت شركة «أنبانغ» الصينية للتأمين فندق «والدورف أستوريا» أحد أعرق فنادق نيويورك الذي تقيم فيه البعثة الأميركية الدائمة إلى الأمم المتحدة. وبلغت قيمة الصفقة 1.95 بليون دولار. وبعيداً من القلق الذي أبداه بعض الدوائر الأمنية الأميركية لجهة إمكان قيام الصينيين بزرع أجهزة تنصت داخل الفندق الذي يستقبل أبرز زعماء العالم دورياً، لم يبدِ الأميركيون عموماً قلقاً من تنامي القوة المالية الصينية أو شرائها الفندق التاريخي المشيّد قبل 83 سنة.
ربما أدرك الأميركيون أن تدفّق رؤوس الأموال الكبيرة إلى بلادهم هو مؤشر قوة لا ضعف، إذ تتوقع الدوائر الرسمية ومكاتب الإحصاءات أن يتجاوز حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة في الولايات المتحدة 200 بليون دولار هذه السنة، بعدما تصدّرت أميركا دول العالم في استقطاب رؤوس الأموال العام الماضي بـ 188 بليوناً متقدّمة على الصين، التي بلغت الاستثمارات الخارجية فيها 124 بليون دولار في الفترة ذاتها.
والسباق على استقطاب رؤوس الأموال هو عالمي تنخرط فيه الحكومات على أعلى المستويات، إذ سبق وأطلّ الرئيس باراك أوباما شخصياً في مؤتمرات لهذا الغرض. على سبيل المثال، شارك أوباما والمسؤولون في حكومته في مؤتمر في تشرين الأول (أكتوبر) 2013.
وقتذاك، وصفت صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية المشاركة بأنها «خطوة أوباما لتصوير أميركا على أنها جاهزة للأعمال، هي خطوة أكثر هجومية من العادة من قبل البيت الأبيض، ما يعكس إدراكاً متنامياً في واشنطن بأن الاستثمار في أكبر اقتصاد في العالم لم يعد بديهياً».
وتشير الأرقام إلى أن أميركا استقطبت 37 في المئة من الأموال المستثمرة حول العالم عام 2000، لتنخفض حصتها إلى 17 في المئة عام 2012، إذ حصلت على 166 بليون دولار فقط. لكن خلال عام 2013، بدأت الأموال العالمية تعود إلى أميركا، فارتفع الإجمالي 17 في المئة، وعادت الحصة الأميركية إلى 20 في المئة من الاستثمارات الدولية الإجمالية.
صحيح أن عام 2013 شهد نمواً للاستثمارات الخارجية المباشرة في أميركا، لكن البلاد بقيت بعيدة من البريق الذي تمتّعت به مطلع القرن. على أن سلسلة من الأحداث تشي بأن الظروف الحالية مواتية لعودة أميركا إلى سابق عهدها، إذ إن روسيا التي حلّت ثالثة العام الماضي بثمانين بليون دولار من الاستثمارات الخارجية، تواجه ما يشبه الجفاف بسبب العقوبات الغربية عليها، والأموال التي كانت في روسيا صارت تهرّب غرباً. ولأن الاتحاد الأوروبي يشهد ركوداً، فإن هذه الأموال تجد طريقها في الغالب من روسيا إلى أميركا.
وكما فعلت اليابان في الثمانينات، أدى تشكّل رؤوس الأموال الضخمة في يد الصينيين إلى سعيهم إلى استثمارها حول العالم، خصوصاً أن الاقتصاد الصيني بلغ ذروته لجهة تحقيق النمو من طريق البنية التحتية والصناعة. ويعتقد خبراء أميركيون أن الصينيين لا يأتمنون نظامهم المصرفي، ويخشون من أن تصادر حكومتهم أموالهم بتهم مختلفة وربما واهية. لذا يندر أن يفوّت أغنياء الصين الفرصة من دون محاولة استثمار أموالهم خارج البلاد.
وتشير بيانات أميركية إلى أن الصينيين يظهرون رغبة كبيرة في الاستثمار في قطاع العقارات التجارية، وساهمت الأموال الصينية في مزيد من الدفع للعقارات الأميركية والاقتصاد عموماً. ويتزامن شراء الصينيين عقارات أميركية، مثل فندق «والدورف أستوريا» في نيويورك، مع استثماراتهم في قطاعات متنوعة مثل قيام شركة الكومبيوتر الصينية «لينوفو» بشراء شركة «موتورولا» الأميركية للاتصالات بمبلغ قارب 3 بلايين دولار.
«بعد خمس سنوات من النمو السريع، تفوّقت الاستثمارات الخارجية المباشرة الصينية في الولايات المتحدة على استثمارات الشركات الأميركية في الصين»، وفق دراسة أصدرتها غرفة التجارة الأميركية، وهي منظّمة غير حكوميّة. وتضيف الدراسة أن «تدفق الاستثمارات يأتي بالمنافع على الأميركيين، بما في ذلك خلق وظائف وسوق استهلاكية أكثر تنافسية».
وكما ساهمت الأموال الأميركية على مدى العقدين الماضيين في خلق وظائف في الصين، تساهم اليوم الأموال الصينية في خلق وظائف أميركية. وتقدّر الدراسة ارتفاع عدد الأميركيين العاملين في شركات صينية «من 10 آلاف عام 2007 إلى 70 ألفاً اليوم».
أمضت الولايات المتحدة العقدين الماضيين تتحسّر لهروب مصانعها وأموالها من شواطئها إلى شواطئ الصين. واليوم، فيما تسعى الصين جاهدة إلى جذب رؤوس الأموال الأجنبية، وفي وقت تقدّم حوافز مالية لسوقها من طريق تخفيف القيود على إيداعات المصارف بهدف تحسين النمو، تجد الولايات المتحدة نفسها قبلة رؤوس الأموال الدولية، من روسيا المحاصرة مالياً إلى الصين المتباطئة والاتحاد الأوروبي المتعثر.
«في مؤتمر قمة الدول العشرين، فاجأتني درجة التفاؤل التي أبداها زعماء العالم بالاقتصاد الأميركي»، قال أوباما لمجموعة من أصحاب الشركات الأميركية الضخمة ومديريها الذين يشكلون مجموعة «طاولة الأعمال المستديرة» والذين استضافهم البيت الأبيض هذا الأسبوع.
هذا التفاؤل لدى حكومات العالم بالاقتصاد الأميركي يبدو هو ذاته الذي ينعكس لدى الشركات والمستثمرين الكبار صينيين وروساً وغيرهم، وهو التفاؤل ذاته الذي دفع النمو الأميركي إلى نسب لم يشهدها منذ العام 2002، والذي ربما سيعيد أميركا إلى المراتب الأولى التي خسرتها في السنوات الماضية، وسيسمح لها بالبقاء في مركز أكبر اقتصاد في العالم في المدى المنظور.
المصدر: واشنطن – حسين عبدالحسين – الحياة