نعرف جميعا الاستثمار فى مختلف المجالات للنهوض بالاقتصاد وتحقيق معدلات أعلى فى التنمية، وتمتلئ الأحاديث السياسية والصحافية بالدعوة إلى الاستثمار فى العقارات وفى السياحة وفى المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية وغيرها، ثم أحاديث عن معوقات الاستثمار وضرورة التخفيف منها أو إزالتها بالكامل، طبعا بيننا من يتشاءم من تلك الكلمة، أى الاستثمار، إذ إنها تعنى عندهم غلاء الأسعار وتخفف الحكومة من التزاماتها تجاه الفقراء وتجاهل مبدأ «العدالة الاجتماعية».
لكن هناك جانب من الاستثمار تقوم به جهات دولية وإقليمية، نتجاهله ولا نلتفت إلى خطورته، رغم أن نتائجه تتبدى أمامنا وهو «الاستثمار فى الإرهاب»- أو يمكننا القول فى الإرهابيين- وقد جدناه فى أفغانستان منذ سنة 1979، حين قال مستشار الأمن القومى الأمريكى للرئيس جيمى كارتر وقتها «إننا نصنع فيتنامهم الخاصة»، كان الحديث عن دفع الاتحاد السوفيتى للتورط فى حرب أفغانستان، وحقق هذا المشروع الاستثمارى الضخم أهدافه كاملة بالنسبة للولايات المتحدة، وكشف هشاشة وضعف الاتحاد السوفيتى، وتم تشويه سمعة ذلك الاتحاد بنظر العالمين العربى والإسلامى، كانت الفكرة السوفيتية تقوم على أنها ضد الإمبريالية والاستعمار ومع الفقراء والضعفاء، حرب أفغانستان أسقطت هذه المقولات كلها، أفغانستان نفسها لم تبرأ إلى اليوم من تبعات تلك الحرب.
أنفقت الولايات المتحدة مليارات فى تلك الحرب، قدمت السلاح بوفرة، دبرت الأموال، خمسمائة دولار شهريًا لكل متطوع، تدفق الآلاف، ووفرت كذلك الدعم السياسى والإعلامى المطلق، لكنها انتصرت على السوفييت.
وقضت فى العالم العربى، بنسبة كبيرة على مرحلة تسيَّد فيها اليسار المشبع بالروح السوفيتية وخلقت أجيالا جديدة، تحمل عداءً صليبيًا للتاريخ السابق لهم، بكل رموزه وأحداثه، وتغيرت مفرداتهم تماما، اختفت معهم كراهية أمريكا أيديولوجيًا والحديث عن الإمبريالية الأمريكية، وعن مفردات مثل النضال والكفاح والفدائى، فقد اختفت لحساب أخرى، مثل المجاهد والجاهلية وغير ذلك.
والآن نرى تجليات هذا الاستثمار فى سوريا الشقيقة وما يجرى على أرضها، يبدو أن هناك من يريدها أن تصبح مثل أفغانستان الثمانينيات.
فى سنة 2011، هبت قطاعات واسعة من الشعب السورى ضد حكم الرئيس بشار الأسد، وتفاءل السوريون بما جرى فى تونس وفى مصر ثم فى ليبيا واليمن، غير أن بشار لم يذهب بطريقة متحضرة كما فعل زين العابدين بن على أو على النحو الذى سلكه حسنى مبارك، كما لم تُجد معه القوة كما حدث مع العقيد القذافى، ببساطة كان لا يزال هناك بقية لدوره، لم يكن البديل جاهزًا ولم يكن المخرِج قد استقر بعد على مشهد النهاية.
الآن وفى كل يوم تفصح لنا الحكايات من سوريا ومن بعض العواصم الأوروبية عن مفاسد بشار الأسد والسيدة زوجته، منها أن الفتاة أسماء وضعت فى طريقه عمدًا منذ أن توجه إلى لندن، استدعيت من نيويورك وتم تدبير عمل لها فى لندن، زرعتها فى طريقه مسؤولة بالمخابرات البريطانية مع والدة أسماء، كان ذلك سنة 1992، وهذا يعنى أن الشاب كان يُجهز دوليًا من وقتها، هنا نفتح قوسًا ونتساءل أو نردد ما قيل سنة 1994 عن أن الحادث الذى أودى بشقيقه باسل، لم يكن عرضًا بل كان مدبرًا وتم الدفع بهذا الشاب، ثم تأتى حكاية أخرى أن الشاب تلاعب فى أدوية والده العجوز المريض، ما أتاح له التحكم فى القرار أثناء حياة الوالد وعجَّل بنهاية الأخير(حدثت وقائع مشابهة فى التاريخ كثيرًا)، رغم كل هذا، كانت كل الطرق ممهدة أمام د.بشار، وجرى الترحيب به عالميًا، جماعات «حقوق الإنسان» فى عالمنا العربى تحدثت بلا خجل عن«ربيع دمشق»، ثم إنه فى محور الممانعة وصل الأمر إلى حد حديث البعض عن إمكانية ترشيح بشار لجائزة نوبل للسلام، وتم توظيف اسم بشار الأسد لوخز عدد من الأنظمة العربية، شاب مدنى، خريج كلية الطب، ابن الحياة فى لندن ويرتبط بفتاة إنجليزية، نسى الجميع أنه صعد بالوراثة فى نظام جمهورى، وأن الدستور السورى عدل خصيصا ليكون على مقاسه حرفيا، وأنه منح بالتزوير رتبة فريق بالقوات المسلحة، كان الوالد محنكا وألعوبان سياسة، لكن الابن من لحظاته الأولى كان غشوما، كان هناك إصرار على إخفاء الجانب المظلم فى مسيرة وسيرة بشار، بدءًا من إرساله إلى لندن، أقام هناك ولم يدرس، قيل إنه سافر ليتم تدريبه كطبيب، ذلك تبرير صعب تفهمه، هل سافر للعلاج كما قال مرة عبد الحليم خدام؟، كل ذلك تم إخفاؤه عمدًا، كان الاستثمار فيه لا يزال قائمًا.
فى سنة 2024، انتهى مشروع، أو بالأحرى صفقة بشار، وتم إغلاق الملف على أن تختلف نهايته عن نهاية صدام حسين أو معمر القذافى، ناهيك عن على عبدالله صالح، فقد كان طيّعًا تمامًا ومتفهمًا قواعد اللعبة، أكثر منهم، فضلًا عن أنه لم يناطح ولم يفكر فى مناطحة النظام العالمى وقدم لهم جليل الخدمات، دعك من هراء البعض حول مقولة «الممانعة»، التى لم تعمل ولم تكن إلا لصالح المتطرفين فى إسرائيل.
فى السنوات الأخيرة كان هناك مشروع استثمارى جديد، الاستثمار فى جيل جديد أو مرحلة أخرى من الإرهابيين.
طبعة سنة 1979، استقرت على جناحين، الأول.. تصدير «الأفغان العرب» إلى المنطقة، انتهى هذا الجناح إلى تنظيم داعش.
الجناح الثانى.. مشروع «ولاية الفقيه» وتصدير الثورة إلى المنطقة، لم يعد خفيًا الدعم الأمريكى والفرنسى لآية الله خمينى فى مرحلة «التمكين».
مؤخرا ومع حرب السابع من أكتوبر، استنفدت تلك الطبعة أغراضها، فقد قامت بالأهداف المطلوبة، وبات ملحًا الانتقال من طهران إلى أنقرة، من ولاية الفقيه إلى السلطنة العثمانية برتوش جديدة، والتراجع عن مرحلة داعش والعودة إلى ما قبلها، المرحلة الأفغانية بنكهة عربية. وكان الاستثمار فى التنظيمات الإرهابية قائما، وتقديم السلاح والمعلومات الاستخبارية مع التغاضى عن كثير من الجرائم.
«الجولانى» كان مطلوبًا لدى الولايات المتحدة، باعتباره إرهابيًا، وضعت أمريكا مبلغ عشرة ملايين دولار لمن يدلى بمعلومات عنه، كان الجميع يعرفون كل شىء عنه. فهو حاكم إدلب لسنوات، بسماح أطراف إقليمية، وفى الخلفية الولايات المتحدة. إخفاء كل شىء يجرى فى إدلب عن الرأى العام هو طريقته فى الحكم والإدارة، كان طوال سنوات على تواصل تام مع المخابرات التركية وغيرها أيضا، باختصار هو المعلوم/ المجهول أو المخفى، وحين تقرر رفع الغطاء وإفساح الطريق أمامه إلى دمشق، تم إخفاء الاسم الحركى، أى الجولانى ومعه سقطت الجولان من الذاكرة، ثم التغاضى عن كل الجرائم التى ارتكبها، حتى إنه محكوم عليه بالإعدام فى العراق (حكم الإعدام يصدر- فى المقام الأول- على القاتل) وتم إجراء عملية تكبير للوجه والملبس، اللحية مشذبة أقرب إلى لحية الخنافس منها إلى لحية بن لادن، صرنا أمام اسم وهوية جديدة، يرتدى أحدث البرندات، البدلة، الكرافت، الحذاء، لا تسأل من أين ولا عن السعر، فعلها من قبل نجيب الريحانى فى فيلم «سى عمر»، من باب الكوميديا، لكنها فى الواقع الذى نراه مختلفة تماما.
بهذا الاسم وذلك المظهر الجديد استقبل رئيس المخابرات العراقية، لكن وضع المسدس فى الجيب الخلفى، بروتوكوليا لا يليق، لكن الاسم الحركى وجرائمه ماثلة فى أعماق الذاكرة.
الرجل يحاول تقديم خطاب جديد، لكن كثيرًا من المفردات تفضح كل شىء، تكشف دخيلة النفس والعقل الباطن.
بعد فرار بشار المهين والجبان، تحدثت الحكومة الإسرائيلية مرتين «لقد أسقطنا حكم بشار الأسد»، وذكر وزير الخارجية التركى أكثر من مرة: «ساعدنا فى إسقاط بشار»، وقال الرئيس التركى رجب طيب أردوغان أكثر من ذلك، باختصار نحن أمام عملية خُططت ورُسمت خارج سوريا ثم نُفذت فى دمشق.
الخطوات الأولى كانت حل الجيش السورى وتدمير كل مقدراته بالطيران الإسرائيلى، دون إشارة امتعاض واحدة من دمشق، لن نقول إدانة واحتجاج، ثم تجنيس الأجانب وتعيين بعضهم قادة للجيش الذى يراد تكوينه.
حاولوا فى سنة 2001 وما بعدها، فرض نموذج بشار على الجمهوريات العربية، كان نموذجا للغواية السياسية والآن يروجون للجولانى سابقًا، الشرع حاليا.
إنه الاستثمار فى الإرهابيين.
المصدر: المصري اليوم