كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
قبل نحو عقدين، نُشرت في هذه الصحيفة قصة أول مؤتمر علني لقيادات الحركة الإسلامية دعا له ونظمه حزب الرفاه، الذي كان في الحكم شريكاً «غير سعيد» مع حزب الوسط «الطريق القويم». يومها اخترت لتقريري عنواناً مستفزاً «مجلس المبعوثان ينبعث من جديد في إستانبول!»، مشيراً هنا إلى برلمان الدولة العلية العثمانية الذي كانت تتمثل فيه الشعوب التي تحكمها السلطنة المتسعة الأرجاء. لم يعجب عنوان المقال بعضاً من المشاركين في المؤتمر، من باب «داروا أموركم بالكتمان». وفي تلك الأيام كان مجرد مشاركة وفد من حركة حماس قصة مثيرة مستفزة للجيش والإعلام التركي، الذي اهتم بها بشكل واسع.
تغير الكثير منذ ذلك الوقت.
الأسبوع الماضي حضرت في إستانبول مؤتمراً عالمياً هو الآخر نظمته الحكومة التركية مع المنتدى الاقتصادي العالمي وموضوعه اقتصاد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الأوروبية. سألت مستشاراً لرئيس الوزراء، لماذا هذه المناطق الثلاث؟ قال بكل وضوح: «لأنها المناطق التي نراها شريكة اقتصادية لنا». بالتأكيد أيضاً يرونها أسواقاً لهم، فالناتج القومي التركي من المنتجات المصنعة وصادراتها في ارتفاع مستمر منذ عدة سنوات، هذه المنتجات بحاجة إلى أسواق جديدة، وبالطبع لن تجد تركيا أفضل من هذه المناطق الثلاث، فالشرق الأوسط وشمال أفريقيا هما في مجملهما العالمُ العربي، الذي كان يوماً ضمن «تابعية» الدولة العثمانية القديمة، والذي يعاني أزمة هوية، ويتلمس طريقه من جديد للنهوض سياسياً واقتصادياً، وما من قصة نجاح في المنطقة تستدعى تجربتها غير تركيا، وسيستدعى معها بالطبع قدر كبير من الاستثمارات والسلع.
أما مجموعة آسيا الأوروبية، فهي لتركيا ميزة حدية، أنها تشاركها الانتماء الى القومية التركية، فاهتمت بها فور استقلالها أوائل التسعينات ومدت إليها جسوراً اقتصادية وثقافية، يضاف إليها دول الجوار حول البحر الأسود، مثل جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، وبالطبع روسيا، التي ترى في صعود تركيا وقدراتها الإنتاجية ساحة صراع بينهما، فهي تريد أن تكون صاحبة الكلمة الفصل في المنطقة نفسها.
أعتقد أن قلق روسيا من الصعود التركي يفسر بقوة الموقف الروسي المؤيد بغباء للنظام السوري، أو أحد أسبابه، فروسيا تعلم أن انهيار دولة بشار الأسد سيلقي بسورية الجديدة إلى حضن تركيا بالكامل، والتي سوف تحولها ساحة نفوذ واستثمار هائل وتجعلها الحلقة المكملة لنفوذها، الذي سيمتد بقوة الى كل العالم العربي.
نصيب تجارة تركيا وصادراتها من سلع وخدمات مع العالم العربي غير النفطي متواضع بين جملة صادراتها التي بلغت العام الماضي أقل من 200 بليون دولار بقليل، ولكنها المساحة الواعدة بالنمو أكثر من أوروبا مثلاً، الشريك الأول للأتراك، لكونها متشبعة، قلقة اقتصادياً ومشغولة بنموها أكثر من حرصها على نمو تركيا التي تشعر نحوها بالغيرة بعدما رفضتها سنوات… اوزلم داجا، رئيسة قسم الاقتصاد في قناة بلومبرغ التركية تقول مازحة إن اليونانيين يقولون إن أزمتهم الاقتصادية عقاب من الله لهم لأنهم عطلوا دخول تركيا السوق الأوروبية.
رب ضارة نافعة، هذا لسان حال الأتراك، فنائب رئيس الوزراء علي بابا جان يقول وابتسامة على وجهه: «نحن بالتأكيد لا نشعر بالأسى الآن أننا خارج منطقة اليورو». سبحان الله، كانت تركيا تتمنى وتسعى للدخول إليها، وبدأت إصلاحاتها السياسية والاقتصادية من أجل أن تقبل في السوق ولكنها رُفضت ببرود، فحققت نجاحاً باهراً خارجه، ولم تعد متحمسة للسوق الأوروبية التي تعاني الأمرّين هذه الأيام.
أنها تنظر للعالمية، وزير الاقتصاد التركي محمد ظافر شاجليان قدم توصيفاً جديداً لحدود تركيا: «نحن محاطون بـ 72 دولة على بعد 24 ساعة طيران مباشر». لم أسمع بهذا التوصيف الجغرافي من قبل، ولكنه توصيف طموح، لأن حدود الدولة لم تعد قاصرة على تلك الدول التي تتلاقي معها في حدود مباشرة، انها أي دولة تستطيع أن تصدر لها منتجاتها طازجة خلال أقل من 24 ساعة، وبالتأكيد المجموعات الثلاث المعنية بالمؤتمر تدخل ضمن هذه الدول.
كان شاجليان يتحدث خلال جلسة حول «الحدود» وهو موضوع يحتاج إلى أن يطرق كثيراً، ونحن نعيش ارتدادات الربيع العربي أو «النهضة العربية الجديدة»، كما يفضل نائب رئيس الوزراء التركي تعريف التحولات في العالم العربي. الحديث عن النهضة يعني مشروعاً مستمراً، لذلك تفضيله لها ينمّ عما تتمناه تركيا أن يكون «نهضة مستمرة، تتحول إلى استقرار، فتبادل اقتصادي عبر حدود مفتوحة».
في لقاء الحركات الإسلامية قبل عقدين، الذي استفتحت المقال بذكره، كان ضيوف الأتراك قيادات تعاني التهميش والإقصاء، تبحث عن مجرد اعتراف، كان مجرد أفكار وتمنيات. في المنتدى الاقتصادي الأسبوع الماضي، تحولت الأفكار إلى تطبيقات حقيقية، ولم يعد بالطبع قاصراً على «أخوة الدين والدعوة» وإنما علاقات دولة ذات طموح واسع. تركيا باتت مؤثرة على سبيل المثال في التحول الحاصل في تونس، كما يقول وزير خارجيتها رفيق عبدالسلام: «لقد أثرت حركتنا الإسلامية في التحول الذي حصل في تركيا، وحان الوقت أن تؤثر تركيا في التحول الحاصل عندنا»، مشيراً إلى تأثر حزب العدالة والتنمية بأفكار الإصلاح الديني المتسامحة التي بلورها الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية. تونس من جهتها لا تريد أفكاراً من تركيا، وإنما استثمارات، وليس منتجات فقط، تريد من تركيا حلولاً لمشكلة الحركة الإسلامية الحاكمة هناك، وهي الاقتصاد عموماً، والوظائف خصوصاً، وكذلك مصر وسورية، كلهم يريدون الشيء نفسه من تركيا.
ولكن تركيا تريد أسواقاً، فهي أيضاً بدأت تعاني البطالة، التي وصلت إلى نحو 10 في المئة، ولكنها ستكون أيضاً دولة حرة تماماً من الديون الخارجية بعد أن تدفع آخر 1.7 بليون لصندوق النقد من أصل 23.5 بليون ورثتها حكومة العدالة والتنمية من الحكومات التي سبقتها، حسبما حرص رئيس الوزراء أن يذكر لحضور المنتدى في كلمة افتتاحه، ما سيمكِّنها بالتأكيد من ممارسة دور تنموي أكبر مع جيرانها…
إن لم تكن السياسة، والمزاج العثماني المتصاعد في تركيا في شكل أفلام وكتب ومعارض، والأخوة الإسلامية التي لم تعد خافية في خطاب رئيس الوزراء وثقته الجلية، فهو الاقتصاد الذي سيجلب تركيا أكثر فأكثر إلى عالمنا.
المصدر: دارة الحياة