كاتب سعودي
ظهر في ثقافتنا العربية على مدى قرون ظاهرة يمكن تسميتها بـ”الانتحار الفكري” يشعر فيها الفرد بأنه معزول عن بقية العالم، لا يستطيع فعل شيء إزاء التغيرات الحضارية والثقافية المعاصرة، مما يدفعه للزج بنفسه في أتون فكر التطرف الذي يعتقد أنه بالانتماء إليه يستطيع مواجهة تلك التغيرات باختيار “رمزية” ما توضع موضع العدو المخيف.
ولأن الركون إلى مبدأ الوصاية الفكرية هو بمثابة الركون إلى انتماء أكبر مطمئن، فإن كل الثقافات التي مرت بتغيرات أدت إلى نتائج حاسمة في تاريخها كان الصراع فيها أساسيا بين قوى النور وقوى الظلام، أو بعبارة أخرى: بين العقل والكهنوت؛ ولذلك تثار فكرة وجود العدو الأزلي بهدف إقناع المتحمسين بفكرة صناعة العدو بانعدام الثقة في جدوى التعايش في ظل التعددية الفكرية والاختلاف الثقافي، وتصوير ذلك بأنه خطر مستمر يهدد الوجود والهوية.
ولذلك، فإن تسليم الفرد عقله إلى الفكر الوصائي هو انتحار فكري يودي به في النهاية إلى الموت المادي أو المعنوي، فمن يرضى لنفسه أن يكون تابعا للفكر الوصائي، فإنه في الأخير سيُقابل بعدم التقدير، لا سيما إذا كان من النوع الذي يكون قابلا للاستخدام مرة واحدة، كما هو حال بعض شبابنا اليوم المحصور في قبضة الإرهاب.
ويبدأ الانتحار الفكري من خلال “التسليم” و”الوثوقية” المؤديان إلى الطاعة العمياء من دون أي شك أو نقاش، وبالتالي يصبح العقل مختطفا؛ وهذا ما يجعل القيادات الوصائية للفكر الإرهابي تعمل بطريقة تضخيم الحالة العدائية من أجل إذكاء جذوة فكرتها، وهي وجود الخطر واستمراريته، وبالتالي ضرورة منع تضخمه من خلال “الانتحار”، وغالبا ما تكون القيادات هذه بعيدة عن تابعيها، ليكون التابعون الذين هم من فئة الشباب في مواجهة مباشرة مع الذات والعالم في آن واحد، وهم بذلك حطب للنار قبل أن يكونوا جنودا في معركة هم ضحيتها أخيرا.
إن دور “الجهاز المناعي” الموازي الذي تحاول التيارات الدينية أن تؤديه، يبدأ بعد أن تنتخب فئة من المجتمع نفسها بأنها أفضل خلايا النسيج الاجتماعي، وهنا تبدأ مرحلة المرض بالتضخم والتورم، مما يؤدي إلى الانتحار الفكري من خلال التحزب والانضواء تحت ألوية الجماعات الدينية، وبالتالي إلى وجود أعمال تدميرية على المستوى الإنساني والمادي، وهي الظاهرة التي اجتاحت المنطقة العربية منذ سنوات مكرسة أيديولوجيا الانتحار.
وعلى هذا الأساس، فإن استمرار وجود الوصاية وممارستها في المجتمع العربي تجعل الفكر أقرب إلى التوحش، وبالتالي قناعة بعض الأفراد بممارسة هذا الانتحار الذي قد لا تجدي معه أساليب الحوار ومحاولات الإقناع، لكن المجتمع-مع شديد الأسف- لا يزال غارقا في الخوف والتخويف من “العقلانية”، فهو بالضرورة سيرتمي في أحضان هذه الوصاية محاولا الشعور بحد أدنى من الأمان؛ وبذلك يكون المجتمع عاجزا عن التعايش مع الاختلافات والآراء الأخرى داخله، مما يؤدي إلى انهيار سمات الحضارة، وذلك حين تعاود الثقافة إنتاج أزماتها بطريقة هزلية يمكن فيها استحضار المواقف التاريخية المشابهة التي يبرز فيها الرفض والإلغاء والإقصاء، تكون قد دخلت مرحلة حرجة تستلزم تدخلا جراحيا من خلال العقل.
إذ لا بد للأفكار من انعكاسات مادية على تصرفات الأفراد، وبالتالي السلوك المجتمعي الذي تمثله الثقافة، ففي حين يسهم الجهل في استمرار الفقر والمرض والتخلف، فإن الحضارة التي صنعها العقل البشري يسّرت سبل معالجة هذه المعضلات، وتأمين طرق للعيش والتعايش، بينما نحن لا نزال نعيد إنتاج عجلة التخلف ونصرُّ على الاستمرار بالسير في الدائرة ذاتها، ولهذا لا تنتهي مشكلاتنا بل تبدأ بصورة متجددة، وبالتالي توقفنا منذ قرون في كوننا ننتمي إلى حضارة منتجة ومؤثرة، في اللحظة التي أوقفنا فيها إعمال العقل، واستبدلناه بالانتحار الفكري!
المصدر: الوطن أون لاين