رئيس مركز الأهرام للترجة والنشر ، حاصل على دكتوراة الفلسفة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة 1992
لا تكفي حساسية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان وحزبه ذي الجذور الإخوانية تجاه دور الجيش في بلاده لفهم موقفه الحاد وخطابه الشرس ضد انتفاضة 30 يونيو التي سحب فيها المصريون الثقة من الرئيس السابق محمد مرسي ودعمها الجيش امتثالا للإرادة الشعبية. قد تكون هذه الحساسية أحد العوامل التي تفسر موقف أردوجان الذي وصل إلى أبعد مدى في إنكار حقيقة ما حدث في مصر.
غير أن هذا العامل يأتي، رغم أهميته، في مرتبة تالية للأثر السلبي الكبير للتغيير في مصر على مشروع أردوجان الإقليمي. فقد حلم أردوجان، ومازال، بأن تكون كلمته مسموعة ليس في الشرق الأوسط فقط ولكن ربما من سراييفو إلى شمال إفريقيا. وتحرك في هذا الاتجاه منذ منتصف العقد الماضي، بالتوازي مع إرساء الركائز اللازمة لهيمنة حزبه (العدالة والتنمية) على مفاصل الدولة التركية. وبدأ ذلك التحرك اعتماداً على الأدوات الاقتصادية والتجارية، مستثمراً الازدهار الذي تحقق في تركيا. ورفع شعار «صفر مشاكل» الذي ينطوي على رسالة مفادها أن التعاون الاقتصادي كفيل بإعادة بناء العلاقات بين دول المنطقة، وأن التجارة تصلح ما تفسده السياسة.
وأحرز مشروع أردوجان هذا بعض التقدم في النصف الثاني من العقد الماضي، حيث تنامت علاقات تركيا الاقتصادية والتجارية مع دول كانت سياساتها متناقضة. فقد تحرك نحو سوريا وجعلها مدخلا إلى لبنان والأردن، فضلا عن إيران، وباتجاه مصر التي انطلق منها إلى دول شمال أفريقيا، وبدأ بفتح قنوات مع دول مجلس التعاون الخليجي. وذهب إلى آسيا الوسطى أيضاً. كما سعى إلى حل نزاعات تاريخية مع الأرمن والأكراد.
ورغم أن الانتفاضات التي حدثت في عدد من البلاد العربية بدءاً من ديسمبر 2011، أربكت مشروعه الإقليمي، فقد وجد في وصول جماعات «الإخوان» وتنظيماتهم إلى السلطة كلياً في مصر وبصورة شبه كلية في تونس وجزئياً في ليبيا واليمن، ما يتيح إعادة بناء هذا المشروع على رابطة أيديولوجية وتنظيمية وسياسية إلى جانب العلاقات الاقتصادية والتجارية.
ولذلك لم يتردد في تغيير موقفه جذرياً تجاه النظام السوري الذي كان قد أقام معه أقوى العلاقات. فقد راهن على أن جماعة «الإخوان» سيكون لها دور رئيسي في النظام السوري الجديد بعد إسقاط حكم الأسد، كما حدث في البلاد العربية التي حدث فيها تغيير. وحرص أردوجان على أن يجعل إسطنبول تبدو كما لو أنها «مركز» إدارة الانتفاضة السورية، رغم أن دور بلاده في دعمها ظل طوال الوقت أقل مما تقدمه دول عربية تساند الشعب السوري إيماناً بحقه في تقرير مصيره وليس من أجل مصالح كالتي يسعى إليها رئيس الوزراء التركي عبر مشروعه الإقليمي.
لكنه لم يدرج ضمن حساباته احتمال تعثر الانتفاضة السورية، مثلما لم يأخذ في الاعتبار إمكان فشل حكم «الإخوان» في مصر حيث توجد جماعتهم الأم وأصل تنظيمهم ومصدره. ولم يحسن قراءة المشهد السياسي في مصر خلال الشهور الأخيرة حين احتدمت الأزمة. ولم ير الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الرئيس السابق وجماعة «الإخوان»، وظن أن دعماً مالياً لحكم فاشل يمكن أن يساعده على النجاح.
لذلك فاجأه التغيير الذي أنهى حكم «الإخوان»، في الوقت الذي ازدادت العلامات الدالة على إحباطه من تأخر التغيير الذي يأتي بهم إلى السلطة في سوريا، فجاء رد فعله عصبياً وليس حاداً فقط. فقد زلزل التغيير في مصر مشروعه الإقليمي بعد أن كان قد أعاد صوغه ليتلاءم مع صعود جماعات «الإخوان» وتنظيماتهم في المنطقة، عبر إضفاء شكل «عثماني» عليه أكثر من أي وقت مضى منذ أن أُثير السؤال قبل سنوات عما إذا كان هذا المشروع «عثمانياً جديداً».
غير أنه لا مضمون أو محتوى في الواقع لهذا الشكل الذي نرى ما يدل عليه في إعادة بناء ثكنات عثمانية في منتزه جيزي، وتسمية جسر ضخم يعبر مضيق البوسفور باسم السلطان سليم الأول، والإعداد لتشييد المسجد الأكبر في العالم على مرتفع عالٍ في الجانب الآسيوي من إسطنبول. فالتاريخ لا يعيد نفسه. والموتى لا يُبعثون إلا يوم القيامة. ولم تكن إجراءات من هذا النوع إلا رموزاً تتناسب مع تطويع مشروع أردوجان الإقليمي لما بدا خلال العامين الأخيرين أنه صعود لجماعات «الإخوان» في عدد متزايد من البلاد العربية.
ولا يخفى البُعد الشخصي في هذا المشروع الذي يقترن بسعي أردوجان إلى الانتقال من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الدولة بعد تعديل الدستور لتوسيع سلطات الرئيس بحيث يصبح أكثر قوة ونفوذاً مما تمتع به مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك في ذروة مجده.
لذلك يبدو هذا المشروع أردوجانياً في جوهره، خاصة أن ملامحه الأساسية لم تضعها مؤسسات الدولة التركية الأساسية، بل صنعها رجاله ومستشاروه الذين أدخل بعضهم إلى مواقع مهمة في هذه الدولة بعد أن كانوا قد حددوا اتجاهها وهم خارجها، مثل أحمد داود أوجلو وزير الخارجية الحالي. ففي هذا المشروع من الطموح الشخصي ما أدى إلى اندفاع غير محسوب في بعض جوانبه، الأمر الذي قد يكون على حساب المصالح القومية للدولة التركية. ولعل هذا يفسر لماذا جاء رد فعل أردوجان على التغيير في مصر أكثر حدة من أي مسؤول تركي آخر. وفي هذا التفسير ما يكفي لأن تحرص الإدارة الانتقالية في مصر على احتواء رد فعل أردوجان الغاضب والحفاظ على العلاقات الطيبة مع تركيا وشعبها، رغم الاستياء الذي يشعر به كثير من المصريين تجاه موقف رئيس وزرائها.
فالعلاقات المصرية ــ التركية أكبر من أي شخص، ولذلك ردت السياسة الخارجية المصرية في عهد «مبارك» على انفتاح أنقرة الاقتصادي على القاهرة بمثله، رغم الحذر الذي كان قائماً بسبب الشراكة التجارية بين بعض المسؤولين الأتراك وبعض قادة جماعة «الإخوان»، وليس فقط نتيجة خلفية «حزب العدالة والتنمية» وتوجهاته.
لذلك ينبغي ألا يكون موقف أردوجان، المفهومة دوافعه على هذا النحو، عائقاً أمام استمرار العلاقات الاقتصادية بين البلدين وتطويرها، والحفاظ على اتفاق التجارة الحرة وليس تجميده بخلاف ما دعا إليه بعض السياسيين والمستثمرين المصريين تعبيراً عن استيائهم من موقف أردوجان الذي بات عليه أن يتأمل بشيء من الهدوء ما وصل إليه مشروعه الذي بدأ بشعار «صفر مشاكل» وانتهى إلى واقع «كله مشاكل».
المصدر: صحيفة الإتحاد