كاتب مصري
ربما يكون أول الليبراليين العرب الإمام أبا حنيفة النعمان القائل: «ليعلم من يضيق قلبه بنا أن صدرنا يتسع له». الليبرالية ليست غير الإيمان بالحرية والحق في الاختلاف، والتنوير هو الإيمان بالعقل، ولكن البعض لا يعرف الليبرالية ويحاكمها أو يشخصنها في بعض نماذجها السلبية أو البراغماتية فقط.
ليبراليون ومدنيون كثر يعبرون عن هذا النموذج، أبهروني- ولا زالوا- يأتي في مقدمتهم عبدالعزيز باشا فهمي (1951) القاضي والمحامي الذي ينقض احتكار الدين واتهامات التكفير والتخوين على الليبراليين، يعرف عبدالعزيز باشا بأبي دستور 1923 فقد رأس لجنة صياغته وكان قائدها الفعلي، وهو أول رئيس لمحكمة النقض، وتولى وزارة المعارف (التعليم حينئذ) سنة 1926، واستقال إثر أزمة كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق، التي أقيل الأخير بسببها من هيئة كبار العلماء. رأس حزب «الأحرار الدستوريون» فترة قليلة، صديقه وحميمه أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، تزاملا في التعليم في مدرسة الحقوق وفي المحاماة، وفي الابتعاث وفي النضال الفكري والوطني التنويري والعقلاني.
أنجبا معاً التلاميذ الأساتذة، والعديد من الأدوار والمؤسسات كالجمعية التشريعية المصرية سنة 1908، شاركا في فض الفتنة والإصلاح بين عنصري الأمة المسلمين والمسيحيين عقب اغتيال بطرس باشا غالي في المؤتمر المصري سنة 1911، وشاركا في بناء الجامعة المصرية، وأدارها لطفي السيد واستقدم لها سعد زغلول كبار أساتذة زمانه من الشرق والغرب، وقادا مع آخرين ثورة 1919، وللأستاذ أحمد حسن الزيات رأي فيه أن الزعيم الحقيقي هو عبدالعزيز باشا وليس سعد زغلول الذي استطاع أن يجذب العوام لحرصه على مخاطبتهم وليس المفكر الحقيقي لها عبدالعزيز باشا.
تخلى سعد زغلول عن الوقوف بجوار علي عبدالرازق وطه حسين، بينما وقف عبدالعزيز فهمي ولطفي السيد بجوارهما، بل يذكر طه حسين أنهما كانا أبرز من وقفا معه ودافعا عن حقه ضد الهجمة الشرسة، ويشهد طه حسين ومحمد حسين هيكل أنهما لم يعرفا مصرياً يتكلم ويتقن العربية كإتقان عبدالعزيز باشا لها، فقد كان الشاعر والمحقق والقانوني والموسوعي، له دراسة عن نوادر البخلاء عند الجاحظ، وله أخرى عن كتابة القرآن باللغة اللاتينية أثارت عليه الكثير، وله دراسة عن تحريم تعدد الزوجات، وله من الأبحاث القانونية والدستورية الكثير مما تأثر به تلميذه عبدالرزاق السنهوري باشا فيما بعد، أبرز فقهاء الدستورية في مصر والعالم العربي.
بنى عبدالعزيز باشا فهمي في قريته كفر المصيلحة المسجد والمدارس والنادي الرياضي، وهي نفس قرية الرئيس الأسبق حسني مبارك، وهو من عائلته نفسها، حتى إن الناس لذكراه الطيبة رفضوا أن يبدل اسم النادي من اسم عبدالعزيز باشا لاسم مبارك، وقبل مبارك الذي كان يجل أسرة الشيخ الباشا، وحماها من بعض الفاسدين ذات مرة، كان يوقف أرضه على تعليم أبناء محافظته والمحافظات المجاورة، أسس مع آخرين جمعية المساعي المشكورة في المنوفية التي خرّجت من الرؤساء والوزراء ومسؤولي الدولة الكثير، كان يعطي لكل من يواصل تعليمه في قريته راتباً شهرياً حتى يواصل تعليمه، وهو ما أكده لي بعضهم، وكان يحرم على نفسه استخدام تليفون مكتبه في أي أغراض خاصة، ولا يستخدم سيارة مؤسسته في أي مناسبة خاصة، ربما خالفه البعض في دعواه بكتابة القرآن بالحروف اللاتينية، أو غيرها، ولكن لم يجرؤ أحد على التشكيك في نزاهته وطهارته ومبدئيته المستقيمة. لم يتزوج بعد وفاة زوجته وابنة عمه أحمد باشا حشمت، وظل مخلصاً لذكراها.
هذا الليبرالي المتدين والقانوني الأول في مصر نموذج يضاد ما يروجه البعض من الجهلاء والأدعياء، وله أبناء نعرف لهم سلوكاً متحضراً وإيماناً بالعقل والحرية، بلا أصولية منغلقة ولا براغماتية متحللة، ولا تعارض بين العقل والحرية من جهة وبين الدين والتدين من جهة أخرى، فالله تعالى قال (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء) قال أبو حامد الغزالي: «نور العقل على نور النقل» .. لسنا كفاراً والسلام.
المصدر: الرؤية
http://alroeya.ae/2014/11/23/198784