1- طالب القرب من بنات الأفكار !
محتضنةً أول كلية دراسات عليا في التاريخ الأكاديمي الأمريكي ، تشمخ جامعة ييل ، المتأسسة مع انعطافة القرن الثامن عشر الميلادي ، قبلةً للبحّـاثة و مزاراً لسياح المعرفة .
حرمها الجامعي الباذخ في قلب مدينة نيو هايڤن في الشمال الشرقي لــ”جمهورية النظرية” يردد صدى مقولة مؤرخها جورج پيرسون : “ييل هي تراث و تجمّع للباحثين و مجتمع من الأصدقاء في وقت واحد” .
الجامعة , بهذا , هي منجمٌ للذاكرة الجمعية , يحفر فيه مجموعة من أصدقاء نادي المعرفة تحت مصابيح أسئلتهم المعاصرة لاستخلاص عروق ذهب التجربة البشرية التي تخرج التراث من صقيع المعاد المكرور إلى نار المعرفة الولود .
تصورٌ كهذا لا يبدو غريباً من جورج پيرسون ؛ فهو سليل بيت ييليٍّ عريق ( نسبة إلى ييل ) يتزعمه جده آبراهام پيرسون ، أول رئيس للجامعة و أحد آبائها المؤسسين .
في عام ١٨٤١ ، و اتساقاً مع روح مؤسسيها الوثابة إلى الأصالة و السبق ، دشنت ييل برنامج الدكتوراة في الدراسات العربية و الإسلامية ليكون الأول من نوعه في أمريكا الشمالية . و بدأ البرنامج الوليد مسيرته مقتفياً آثار الفيلولوجيا الأوروبية .
مئة و اثنان و سبعون عاماً أو يزيدون من دراسة ييل للتراث العربي كانت كفيلة بإيقاد شمعة الفضول : تُرى كيف يبدو هذا التراث في رؤية ييل و في المنظار الأكاديمي الأمريكي ؟
و السؤال يزداد تركيزاً بسبب ريادة ييل في منهجيات قراءة النص المعاصرة ؛ فمنها انبعث النقد الجديد , و في قاعات قسم الأدب المقارن فيها جمعت التفكيكية بول دي مان بديريدا , و في شارع وول ستريت الفاصل بين مكتباتها الرئيسية ما زال هارولد بلوم يوقع لزائريه نسخاً من بيانه الختامي ( تشريح التأثر ) تارةً , و من بيانه الافتتاحي ( قلق التأثر ) تارة أخرى .
حينها ، انطلقتْ رحلةُ مقاربة السؤال عبر بعثة دراسية لمواصلة الدراسات العليا في الأدب العربي و النظرية الأدبية .
…….
في خريف 2012 بدأ الفصل الدراسي الأول بفعاليات الأورينتيشن ( التوجيه الجامعي ) .
ثلاثة أسابيع مكتنزة بالحفلات و الجولات التعريفية للطلاب و مرافقيهم ، ثرية بما لا تغني فيه الصفة عن المعرفة ، و ينتظمها خيط رفيع تشده من طرفيه بساطة البشر و دقة النظام .
في حديقة آيتش جي إس Hall of Graduate Studies) HGS ) تدشن الفعاليات بإفطار جماعي لطلاب الدراسات العليا و مرافقيهم في ضيافة عميد كلية الدراسات العليا .
بعد ذلك يصطف الطلاب الجدد عند مدخل الكلية ليبدأوا موكبهم الرسمي في الحرم الجامعي وصولاً إلى قاعة سپراوق Sprague الشهيرة في كلية الموسيقى .
يأخذ الطلاب و مرافقوهم مقاعدهم للاستماع إلى ترحيب مدير الجامعة و الطاقم الإداري ، قبل أن يصعد مجموعة طلاب كلية الموسيقى إلى المنصة لأداء ثلاث أغانٍ على نمط أكابيلاّ جللت الحضور الأكاديمي بعبق من روحيات التاريخ . و تصل الرسالة : هذه جامعة خضراء : صديقة لبيئة العلم و بيئة الفن معاً ، فاعلمنْ !
يتلقى الحضور , من ثمَّ , دعوة مدير الجامعة لاستضافتهم في بيته الخاص . يقف عند باب الدخول مصافحاً الجميع فرداً فرداً , و مكرراً امتنانه الشديد لاختيارهم ييل وجهةً لمواصلة دراساتهم .
يلتقط الطلاب الصور التذكارية مع المدير , ثم يتوجهون إلى حديقة المنزل يقرعون كؤوس الكلام مطوَّقين بالخـَــضار الأنيق . يسجل كل طالب اسمه في “السجل التاريخي لطلاب الدراسات العليا في جامعة ييل” مذيلاً بتوقيع و كلمةٍ مختصرة فضّل كثيرٌ من الزملاء تسجيلها بلغاتهم الأصلية .
يودع الطلاب منزل المدير تدور أحاديثهم حول دفء استقبال الرجل و طاقمه الإداري . أسماء ييل الكبرى بدت في بساطتها البشرية حميميةً كما ينبغي لمن يعي دوره في تذويب أثقال القلق التي يراكمها في نفوس القادمين الجدد الرأسُمال الرمزي لهذه المؤسسة العريقة . في هذه اللحظة , بات اليـَـيــْـلــِــيــز الجدد , كما تسميهم اللغة المحلية , مؤهلين للبدء في الركض المعرفي الطويل .
أهداف الأورينتيشن كانت تتحدث عن نفسها : الجامعة هي كوخك الفردي الحليم في المكتبة , و ساحة لقياك برفاقك الدوليين في الحرم الجامعي . نحن نحتضن مرافقيك بالبرامج الماتعة ، فقط تفرغ أنت لــ”شغلك” و أرنا من نفسك خيراً !
هل أجهدت “عضلات” مخك بما فيه الكافية ؟ لا عليك : تعال إلى صالة پايني ويتني Payne Whitney Gymnasium ، ثاني أكبر صالة رياضية في العالم ، و سم بالله و ابدأ بالإجهاد الممتع لعضلات جسمك!
نظم المحاضرة التي تريد ، استدع من تشاء ، قدم أنت بنفسك محاضرتك و ادع من تشاء . لا حاجة إلى إرسال سيرتك الذاتية إلى “عمدة” المدينة قبلها بأشهر ، فهو منشغل عن مطاردة ظلال كلماتك بالسعي إليك !
اختر من المجتمعات الطلابية ما يناسب مواهبك و ميولك ، و اخرج من صومعة النظريات إلى العالم الواقعي حيث تشارك في التأثير في أحداث العالم . ابق على اتصال : نعم ، ابق على اتصال بساعة العالم و ساعة العلم معاً !
الجامعة هي منصة طموحاتك القيادية و مختبر تصوراتك العلمية . هي مصنع أفكار أقرانك الذين يشاركونك هواء اليوم , و خدر بنات أفكار العالمين الذين سرقوا علامات الاستفهام من كلام الناس في يومٍ ما ثم كتبوا إجاباتهم المقترحة و مضوا !
_ و أنت , ما أنت ؟
_ أنا طالب . طالب القرب من بنات الأفكار !
خاص لـ ( الهتلان بوست )