أصبحت منظمات المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية من بين الأطراف المؤثرة في ما عرف باسم «النظام الدولي الجديد»، عقب سقوط الاتحاد السوفياتي السابق. وجرى التوافق في الغرب على أن سيادة الدولة بمفهومها القديم تآكلت، وأصبحت عرضة للمراقبة والنقد، الأمر الذي يجبرها على تغيير سياساتها بفعل ما تحتله المنظمات غير الحكومية من مكانة في العالم المعاصر.
وبدا ذلك، في الفهم المبدئي والمتفائل له، إنجازاً إنسانياً سيساعد في تسريع وتيرة التنمية حول العالم، والحد من الانتهاكات التي يتعرض لها البشر، وإعطاء دفعة كبيرة لكل أشكال الدعم والمساعدة التي ستصل إلى الناس عبر جهود ملايين من المتطوعين ينتظمون في مئات آلاف المنظمات الناشطة في الصحة والتعليم ومحاربة الفقر ودعم الحقوق والحريات.
وساعد في ذلك، أن مصطلح المنظمات غير الحكومية يرتبط بظلال ومدلولات إيجابية على المستوى العالمي، فهي تقوم على تطوع فئات من البشر يبذلون من وقتهم وجهدهم وأموالهم وخبراتهم وفائض إنسانيتهم من أجل مساعدة الناس في الحياة بشكل أفضل. كما أن تاريخ المنظمات غير الحكومية في الغرب يرتبط في بداياته بدورها بعد الحرب العالمية الثانية في حل مشكلات الفقراء والجرحى والمعوزين واللاجئين والأيتام والعاطلين عن العمل، بما ساعد في تخفيف آلام الحرب وويلاتها عن فئات واسعة من المتضررين، وأوحى باعتماد هذه الآلية سبيلاً لحل مشكلات كثيرة تواجهها البشرية في مختلف مناطق العالم المنكوبة.
هذا الرصيد الإيجابي يستتبع نوعاً من ردود الفعل التلقائية تجاه الأخبار المرتبطة بالمنظمات غير الحكومية، فعادة ما يُشار إلى «قوة المجتمع المدني» في دولة ما باعتبارها دليل قوة وعافية، وإلى «ضعف المجتمع المدني» بوصفه نقيصة أو نقطة ضعف تستوجب المعالجة. ومثل هذا التعميم يفتقر إلى الصحة، فبعض الدول التي تقدم لمواطنيها خدمات راقية ومتنوعة وأشكالاً من الدعم الاجتماعي تبلغ حد الرفاهية، مثل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لا تنطبق عليها المعايير نفسها التي تنطبق على دول تطغى نزعتها الرأسمالية على متطلبات المسؤولية الاجتماعية على رغم تقدمها وتطورها. وكذلك لا تنطبق على دول مجلس التعاون المعايير التي تنطبق على دول لا تستطيع تلبية متطلبات مواطنيها وحاجاتهم الأساسية. ولا يعني ذلك رفض وجود المجتمع المدني الحيوي والنشط في دول الخليج العربية، لكنه يعني أن الحاجة إليه أقل بكثير نتيجة واقع سياسي واقتصادي واجتماعي مختلف.
الخطير في الأمر أن الرصيد الإيجابي والصورة الذهنية الجيدة لمنظمات المجتمع المدني، كانا تحت أعين القوى التي تريد استغلال هذه النقاط لمصلحتها، خصوصاً المنظمات الدولية والإقليمية المعنية بالحريات وحقوق الإنسان التي يركز عليها هذا المقال، ومن ثم عملت تلك القوى على تحويل مثل هذه المنظمات إلى أذرع لتنفيذ سياسات معينة، واستخدامها سلاحاً في معارك النفوذ والتأثير، وذلك عبر تشويه أطراف بعينها، أو الضغط عليها لإحراز مكاسب سياسية أو اقتصادية. والغريب أن هذه المنظمات كانت في معظم الأحيان، إن لم يكن جميعها، تتجاهل الإشارة إلى الجوانب الإيجابية التي تحققها الدول، فيما توجه سهام نقدها في ملفات محددة تقتطعها من سياقها العام.
لا شك في أن هناك منظمات غير حكومية تعمل لأهداف إنسانية نبيلة وتؤدي دوراً في التنمية، لكن العقدين الأخيرين شهدا توظيفاً غير شريف لمنظمات غير حكومية جرى تأسيسها لتعمل بحسب الطلب، ولتُصدر تقارير معينة تدين هذه الدولة أو تلك، وتوجه الاتهامات إليها. فمنظمة العفو الدولية (إمنستي) التي لا تقبل أية أموال من الحكومات أو الأحزاب السياسية، ربما تكون المنظمة الوحيدة التي لا يمكن الشك في مصادر تمويلها، ولكن تقارير هذه المنظمة يتم توظيفها واستثمارها من قوى ودول معينة. ومن اللافت للنظر أنه يجري في وقت من الأوقات ما يشبه هجوماً منظماً وكثيفاً من عشرات المنظمات غير الحكومية على بلد مثل الصين أو روسيا، والترويج لاتهامات معينة عبر حملات هائلة للإعلام الغربي بكل وسائله، ثم تصمت هذه الحملات فجأة أو تخف وتيرتها، إلى أن يُعاد إحياؤها وفق إيقاع منضبط يصعب معه افتراض أن ذلك يحدث بالصدفة. فضلاً عن أن وسائل الإعلام تقوم بالتركيز على بعض تقارير تلك المنظمات، وتغفل تقارير أخرى بشكل انتقائي لأسباب لا تخفى على أحد.
التمويل هو كلمة السر وراء مثل هذه المنظمات. وليس أسهل من تأسيس منظمة غير حكومية تحت عنوان إنساني عام تصدر تقاريرها وبياناتها ومناشداتها في اتجاه معين يخدم مصالح الجهة التي تتكفل بالإنفاق. وليس من الصعب كذلك اختراق منظمة غير حكومية قائمة بالفعل، ولها تاريخها وصدقيتها، وذلك بإغراء القائمين عليها بأرباح ومكاسب. وفي كل الأحوال فإن الإعلام يتكفل بنشر كل ما يصدر من بيانات وتقارير بغض النظر عن صدقيتها، وتكتسب هذه المواد قوة أكبر حين تُترجم إلى لغات مختلفة، حيث تغيب التفاصيل عن القارئ الذي لا يُدرك الخلفيات، وتصل إليه صورة مجملة عن أن دولة ما تنتهك الحقوق والحريات. ومع تكرار الاتهامات وتزايد وتيرتها من جانب منظمات مختلفة تكتسب قوة ورسوخاً، إذ يساعد التكرار في تأكيد التهم وتثبيتها.
لقد أقامت الولايات المتحدة ودول أخرى الدنيا ولم تقعدها حين اتخذت مصر قراراً بإغلاق 17 منظمة أهلية محلية ودولية منها أربع منظمات أميركية بسبب مساسها بالأمن القومي المصري، فيما لم نر الشيء ذاته يحدث حين أغلقت الهند عدداً كبيراً من تلك المنظمات للسبب ذاته، علماً بأن الولايات المتحدة أغلقت عدداً من منظمات المجتمع المدني فيها بعد أحداث أيلول (سبتمبر) والانتقادات التي وجهت إلى معتقل «غوانتانامو». كما أن القانون الأميركي، الذي لا يمنع أي منظمة غير ربحية من تلقي الأموال من الخارج في حسابها، يجبرها على الإفصاح عن مصادر تمويلها، كما يحظر عليها العمل بالسياسة والتأثير في الرأي العام في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وكذلك العمل مع جماعات الضغط للتأثير في صناعة القرار.
لا شك في أن منظمات المجتمع المدني، ولاسيما العابرة للبلدان، أصبحت واقعاً لا يمكن تجاهله، كما أن أجنداتها باتت مكشوفة للجميع، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا سبيل للتخفيف من آثارها السلبية على مجتمعاتنا إلا تحصين مجتمعاتنا، خصوصاً جيل الشباب، وتوعيتها بأهمية عدم الالتفات إلى تقارير تلك المنظمات التي تتجاهل الخصوصيات الثقافية، فليس ممكناً مثلاً في ظل الثوابت الدينية والاجتماعية في العالم العربي طرح قضايا مثل المساواة في الميراث بين الرجال والنساء، أو زواج المسلمة من غير المسلم، أو الدفاع عن المثلية الجنسية، على النحو الذي نرى نماذج له أو مطالبات به. ومثل هذه التوجهات تجعل من المنظمات غير الحكومية عامل شقاق وصدام واضطراب اجتماعي وثقافي، بدلاً من أن تكون عنصر دعم ومساندة.
لا يمكن لعاقل إلا أن يقف مع حقوق الإنسان ويدافع عنها، ولكنه لا يمكن كذلك أن يغض الطرف عن الدوافع الخفية والمغرضة لبعض مؤسسات المجتمع المدني. والمأمول أن تنشط مؤسسات المجتمع المدني المحلية المستقلة، والتي لا تخضع لأي تمويل أو ضغط خارجي، بحيث تكمل الجهود الحكومية الهادفة إلى تعزيز التنمية والارتقاء بمجتمعاتنا على النحو المنشود.
المصدر: صحيفة الحياة