توفي عن عمر يناهز 83 عاما الفنان التشكيلي السعودي عبد الجبار اليحيا، في أحد مستشفيات العاصمة السعودية الرياض، بعد معاناة من المرض والألم لم تمكنه من ممارسة طقوسه البصرية في السنوات الأخيرة من عمره. وبهذا فقدت الأوساط الثقافية والتشكيلية في السعودية علما من أعلام الفنون البصرية، تمتعت أعماله بفرادة وحيوية مرهفة تجسدت أهميتها في مفاهيم تتعلق بالأرض والانتماء.
ولد اليحيا في قرية الزبير العراقية 1931، وشغف منذ صغره بتقليد بعض فناني عصر النهضة والانطباعيين أمثال سيزان ومانيه نتيجة التشجيع الذي لاقاه إبان دراسته في الصفوف التعليمية المبكرة في العراق. وقال في إحدى مقالاته إنه منذ البدايات الأولى كانت الجدران البيضاء المجصصة، وأعواد الأثل المحترقة، تعانق مخيلاته وتتراقص أمامه بأحلام الطفولة. وأضاف «كنت مأخوذا بروعة الصور والرسوم الملونة في كتب فنية لابن خالتي ناصر سعد الخرجي رسام الكاريكاتير الذي عمل في إحدى الصحف السعودية السيارة». ويستطرد «لقد التهمت هذه الصور جل وقتي وكنت أقوم بإعادة رسمها ونقلها مرات ومرات عديدة، بل ومئات المرات. بعضها عبارة عن تماثيل إغريقية قديمة ولوحات روفائيل ومايكل أنغلو وتخطيطات دورر وفنانين روس من عصر النهضة الأوروبية… ثم فان غوخ ومعاصريه. وكنت استخدم ألوانا مستوردة وألوانا استحدثتها بنفسي من الخرس والحناء والبرسيم ومساحيق صبغ الملابس مذابة إما بزلال البيض أو دهن الكتان أو زيت الخروع، حيث لا توجد الألوان جاهزة في مسقط رأسي، خاصة إبان الحرب العالمية الثانية، ولا يفوتني أن أذكر أنني قرأت كل ما يقع تحت يدي من كتب فنية متخصصة، وما يتعلق بالنقد الفني والأدبي».
انتقل اليحيا إلى البحرين وهو في سن السادسة عشرة لمواصلة تعليمه، غير أن لقمة العيش أجبرته على العمل ولم تمنحه الوظيفة متسعا من الوقت لممارسة الفن بصورة طبيعية، إذ كانت الأخيرة تستأسد بوقته باعتبارها مصدر رزقه الوحيد. وعندما عاد من البحرين إلى موطنه السعودية، كما يقول اليحيا يرحمه الله «كانت المرحلة تمتزج بغموض تجاه الفن وببعض الصعوبات، ورغم ذلك كنت أشتاق بوله شديد إلى الرسم، فأرسم تارة وأحبط تارة أخرى حتى ابتعاثي إلى أميركا عام 1952 لدراسة الإلكترونيات، هناك عاودني الحنين للرسم ومنحت فرصة المشاركة في معرض جماعي أقيم في متحف فورست بارك بولاية ميسوري الأميركية». ويكشف اليحيا أنه في بداية الستينات لم يكن هناك حراك ناشط أو فاعل في المحترف السعودي حتى أواسط الستينات التي شكلت بداية النشاط الفني في المملكة.
عاد اليحيا من أميركا إلى مدينة جدة مباشرة، وهناك صمم شعارات لسلاح الجو، وقد انتصر آنذاك لشغفه بالفن عندما عمل بتحرير أولى الصفحات التشكيلية بصحيفة «المدينة المنورة»، والتي تضمنت مقالات محلية ومترجمة حول الفن التشكيلي بصورة عامة. ثم غادر جدة عام 1969 إلى الرياض وتلقى أولى بشائر حضوره الفاعل تشكيليا عندما اقتنى رجل ألماني أحد أعماله الفنية، فبدأ على أثر ذلك مشواره في المشهد المحلي، وأقام أول معرض له في العام ذاته في مقر البعثة الأميركية في الرياض، ثم تلاه معرض آخر عام 1973.
وقد كانت أعماله آنذاك تنتمي للمحاكاة والتسجيل وتكاد تكون أقرب إلى تيارات عصر النهضة، غير أنه سرعان ما تخلص من هذه التيارات. ففي معرضه الذاتي الثالث بدت مكتسباته أكثر حصافة وحيوية، حيث استلهم في تلك المرحلة فكرة الانتماء للأرض والطبيعة والإنسان، واستفاد من ممراته السابقة ليجاهد في الوصول بأفكاره للدفاع عن المرأة ومشاركتها في الحياة العامة لما تتمتع به من خصائص تسمح لها بذلك، وجسدت أعماله بلاغة حساسيته الجمالية إلى أبعد الحدود. وبدأت حيوية مفرداته تتجسد في رسم الشخوص الإنسانية في أوضاع تتصل بما جرى اعتباره مفهوما أصيلا لانتماء الإنسان للأرض، وتمحورت حول علاقة الإنسان ببيئته ومجتمعه، ومستوحاة من قناعته الشخصية والفكرية المختلفة التي يبرزها من خلال الدلالات والرموز وتعدد عناصر اللوحة وقدرته على اختيار الأسلوب المناسب لتصل للمتلقي بسهولة.
عانى اليحيا في ممرات حياته البصرية من ضيق الوقت الذي ظل يلاحقه مثل غواية، فكان ينتظر لحظة تفرغه للفن بفارغ الصبر. كتب غير مرة أنه «في حال تفرغي للفن سيصبح عندي متسع من الوقت، كل الوقت. سوف أتقاعد وأتفرغ للرسم. سيكون عطري المفضل مستحضرات (رامبرانت) والألوان الزيتية. وهكذا سيكون عندي مطلق الحرية أو الحرية بمعناها الضيق والواسع أو كلاهما معا. وسيعزز هذا من أنانية ضمير الفنان المتعطش داخلي لرسم رغباتي الجامحة بالألوان، ولن أبالغ في كشف حساسية الناس كما أراهم عراة من كل زيف». ويستطرد قائلا «عندها أجد إجابة مقنعة عما إذا كان الفن للحياة أو للفن، أم أن الفن هو ما تجيش به نفس المبدع؟». وفي كتابه الموسوم «عبد الجبار اليحيا وخمسون عاما من الرسم»، قال «أدركت فكرة أن (الفن للحياة) وأن الفن ليس تسلية أو هواية مجردة من الغرض، فقد اعتقدت جازما أن لي رسالة يجب أن أحققها، سواء بإدخال المتعة والسرور في قلب المبدع والمتلقي معا أو بتحقيق فكرة تعيد الأمل للإنسان». وختم قائلا إن ابتعاده عن الفن يصيبه بكآبة في النفس وغصة في القلب، موضحا أنه اكتشف بل وعرف إنسانيته من خلال الفن.
أقام له غاليري «حوار» معرضا استعاديا عام 2009 أطلق عليه «بناء وانتماء» جمعت فيه معظم أعماله. أصبح المعرض في ما بعد عملا استباقيا واستثنائيا عزز من قيمة أعماله في السوق المحلية. من جهة ثانية يقام هذه الأيام معرض لعدد من فناني الطليعة في السعودية على جدران غاليري «أيام» في مدينة جدة، من بينهم المرحوم الفنان عبد الجبار اليحيا، مما يعتبر آخر مشاركة له في حياته ومشواره الفني وبمجموعة أعمال قابلة للتداول في السوق الفنية، ولعل واحدة من اشد الملاحظات أهمية أن أعمال اليحيا باتت منذ اللحظة محل نظر المستثمرين في سوق الفن محليا ودوليا.
أقام اليحيا عشرة معارض فردية وشارك في العديد من المعارض الدولية تجاوزت الخمسين، ترجم كتاب تقنيات اللون من اللغة الإنجليزية إلى العربية وأصدر كتابا «خمسون عاما من الرسم» يحكي مشواره الفني.
المصدر: الشرق الأوسط