لم يكن فشل مفاوضات الكويت التي استمرت شهوراً بين وفد الحوثيين ووفد الحكومة الشرعية اليمينة غريباً، فسلوك الحوثيين على امتداد الأعوام الثلاثة الماضية يكشف أنهم كانوا يتحركون بإصرار نحو هدف ظنوا أنه أصبح قريب المنال، وهو إحكام السيطرة على اليمن وتحويله إلى محمية إيرانية جديدة تأتمر بأمر طهران وتتحرك وفقاً لما تمليه المصالح والخطط الإيرانية، من دون اكتراث لما يدفعه اليمنيون بمختلف طوائفهم واتجاهاتهم من ثمن فادح للمغامرات الحوثية.
لم يكن الحوثيون ليستطيعوا التسلل ثم الانقضاض في غير أجواء الفوضى والاضطراب، لذا كان الغطاء الذي اتخذوه لتحركهم هو الاحتجاج على قرار عادي للحكومة برفع الدعم عن المشتقات النفطية في العام 2014، ليمضوا بعد ذلك في تنفيذ مخطط موضوع سلفاً لاستخدام القوة العسكرية في السيطرة على كامل اليمن، غير مكترثين لهاوية الفوضى والتمزق التي كانت نتيجة حتمية لما نووا الإقدام عليه، أو لما يواجهه اليمن من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة، وافتقار معظم الشعب إلى تلبية حاجاته المعيشية، والتدهور الحاد في الخدمات الصحية والتعليمية التي كانت أقرب إلى الانهيار التام.
لا يؤمن الحوثيون بغير القوة، ولم يكن الجانب السياسي يعنيهم إلا بقدر ما يساند هذه القوة التي يتصورون أنها ستُخضع اليمن لهم، لذلك فإن اتفاقاتهم مع القوى السياسية اليمنية الأخرى منذ أيلول (سبتمبر) 2014 حين سيطروا على صنعاء، أو محاولاتهم إظهار رغبتهم في إبرام تفاهمات مع الحكومة والرئيس عبدربه هادي منصور، أو مفاوضاتهم مع المبعوث السابق للأمم المتحدة جمال بن عمر، لم تعدُ بالنسبة إليهم أكثر من فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة التموضع من أجل مواصلة الحرب.
التحالف الذي جمع بين الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح لم يكن خارج هذا الإطار، فهو حلف انتهازي ليس له ما يبرره إلا استعداد الحوثيين لفعل أي شيء من أجل تعزيز قوتهم في الحرب التي يحتشدون لها، فبين صالح والحوثيين تاريخ طويل من الصراع، تعاقبت فيه ست حروب دموية خلال سبعة أعوام، ودفع الشعب اليمني كلفتها الباهظة. وتحالف «الحوثي – صالح» نفسه مشروع حرب مقبلة، لأن كلا الحليفين يسيء الظن بالآخر، والمواجهة الدموية المقبلة بينهما في حكم المؤكد، لولا أن ضرورات قسرية دفعت كلاً منهما إلى الارتماء في حضن الآخر. ولو أن الحوثيين أتموا مخططهم لكانت الحرب مستعرة الآن بينهم وبين علي عبدالله صالح، إلى جانب عشرات الصراعات الأخرى التي ستندلع من دون أن تجد من يطفئ نارها.
ينطلق الأمل باقتناع الحوثيين بالحلول السلمية من افتراض خطأ، وهو أنهم – كأي قوة وطنية – يرغبون في استقرار بلدهم وخيره وأمنه وأمانه. والأضرار المترتبة على مثل هذا الافتراض كبيرة. فمن الواضح أن المهمة الموكلة إليهم هي إدامة الاشتعال في المنطقة، وإثارة الاضطراب على حدود المملكة العربية السعودية، في إطار محاولات إيران ضرب الاستقرار في دول الخليج. ولا يبالي الحوثيون بما يترتب على ذلك من مآسٍ إنسانية وخسائر يتكبدها اليمن من حاضره ومستقبله.
كشف قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد علي جعفري الصلات الوثيقة بين إيران والحوثيين في حديث إلى وكالة «تسنيم» الإيرانية الأربعاء الماضي قال فيه إن «الأعداء اليوم لا يمكنهم تحمل التنسيق القائم بين سورية والعراق واليمن مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية». وهذا اعتراف صريح بأن الأيدي الإيرانية تقف وراء تحركات الحوثيين التي أخذت اليمن إلى طريق مظلم، وأنهت الآمال التي اقترنت بجهود دول الخليج العربية ومبادراتها الساعية إلى إبرام تفاهمات بين جميع القوى اليمنية لضمان الأمن والسلام والاستقرار، يتبعها تقديم الدعم السياسي والمساعدات الاقتصادية للخروج باليمن من مأزقه الصعب.
يقدم الحوثيون اليمن ومستقبله وشعبه قرابين على مذبح المطامع الإيرانية، ولا يرى الإيرانيون بأساً في معاناة اليمن وآلام اليمنيين المتواصلة منذ سنوات، بل إن محمد علي جعفري يصف ما يحدث في اليمن وغيره من الدول التي ابتليت بالتدخلات الإيرانية، في حديثه المشار إليه آنفاً، بقوله: «انتقلت المعنويات الثورية والمقاومة والصمود إلى كل الدول المسلمة». وإيران حريصة على إدامة «المعنويات الثورية والمقاومة والصمود» ما دام وقودها هو أرواح اليمنيين ومقدراتهم.
وفي مقابل حرص إيران على تغذية العنف والموت في اليمن، بمسمى «المعنويات الثورية»، قدمت دول الخليج العربية لأهل اليمن أشكالاً مختلفة من الدعم والمعونة. فدولة الإمارات قدمت خلال 15 شهراً مساعدات بلغت 4.34 بليون درهم إماراتي (1.2 بليون دولار)، وفقاً لما أوضحته وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي. وقدمت السعودية مساعدات إنسانية تقارب نصف بليون دولار خلال عام عبر منظمات محلية وعالمية عاملة في اليمن، وفقاً لما أعلنه أخيراً «مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية». ونوهت منظمة الصحة العالمية بجهود السعودية في تقديم المساعدات الصحية لليمن، وأوضحت ممثليتها في الرياض قبل خمسة أيام أن المساعدات السعودية شملت المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، وحتى المواقع التي تُعدًّ معاقل لهم، مثل محافظة صعدة.
هذه المساعدات الخليجية لليمن تعكس الفارق بين من يريدون له أن يستقر، ومن لا يُصدِّرون إليه سوى الفتن، ويدفعون تابعيهم دفعاً إلى إنهاء كل فرصة للحلول السلمية، والذهاب إلى المفاوضات بنية المناورة والمراوغة والإيهام بالاحتكام إلى لغة العقل. وفي هذا الإطار يجري تبديد الوقت في طرح مطالب مستحيلة، ومحاولات القفز على المرجعيات التي تحكم المفاوضات، والبدء من نقطة الصفر في كل مرة، وهم في هذا يحاولون الاستفادة من النمط الإيراني المراوغ في التفاوض، متغافلين عن أن إطالة أمد التفاوض إنما تعني إطالة أمد معاناة اليمنيين وآلامهم.
ربما تكون الحسنة الوحيدة في انهيار مفاوضات الكويت في نهاية الشهر الماضي هي وضوح الصورة أمام العالم، وأمام قطاعات من الجمهور العربي الذي ينخدع أحياناً بفعل الدعاية المغرضة والمواقف المرتبكة لبعض القوى والمنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة التي تبدو أقرب إلى قبول الابتزاز الحوثي والرضوخ له في كثير من الأحيان. وظهرت الأمم المتحدة وكأنها يمكن أن تقدم تنازلات حتى في ما يخص القرارات التي أصدرتها هي نفسها، مثل القرار الرقم 2216. وتأكد أن الحوثيين هم من أفشلوا مشروع الاتفاق الذي تقدم به مبعوث الأمم المتحدة إسماعيل ولد الشيخ أحمد لإنهاء الصراع في اليمن.
لم يترك الحوثيون، للأسف، طريقاً غير استخدام القوة العسكرية من أجل إنهاء الحرب التي بدأوها، واستعادة الشرعية التي تقود العمل نحو إزالة آثار العدوان الحوثي، وتضع اليمن وشعبه على طريق الخلاص من إرث الماضي. ولن تكون المهمة سهلة، لكن الحزم والعزم اللذين أبدتهما دول التحالف العربي سيكونان قوة دفع في بناء اليمن الجديد، لينال أبناؤه الحياة الأفضل التي يستحقونها.
المصدر: الحياة