كاتب قطري
عملتُ 6 سنوات من حياتي الإعلامية مديراً للشؤون الإعلامية في الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية بالرياض. وكنتُ قبلها بثلاث وعشرين عاماً كاتباً في الصحف القطرية والخليجية، ولم أتوقف يوماً واحداً. فاجأني الأمين العام لمجلس التعاون آنذاك الشيخ جميل الحجيلان – الذي أحفظ له الكثير من الودّ والاحترام – بأنه يجب عليّ الاختيار بين الوظيفة أو مواصلة الكتابة في الصحف! ذلك أن الوظيفة تحتمّ أن أكون محايداً ولا أتعاطى السياسة في الكتابة كوني أمثّل 6 دول وليس دولة واحدة. وافقتُ على مَضض لتقديري بأن تكون بعض الجهات قد أوعزت للأمين العام بذلك، وفعلاً توقفتُ عن الكتابة حتى عام 1999 حيث عدتُ إلى بلدي وواصلت الكتابة من جديد.
هذه المقدمة ليست مُستلة من سيرتي الذاتية، بل إنها دليل على أهمية الحياد في قضية النشر وفي قضية التوظيف! وأن الكاتب – حتى لو لم يخطر بباله أن يعبرّ عن رأي المؤسسة التي يعمل فيها – فإنه مُعرّضٌ للزلل أو الانحياز لطرف دون آخر، أو قد يكون تفسير البعض مختلفاً عما يدور في ذهن الكاتب.
واليوم، ومع الانفجار المعلوماتي والتكنولوجي، ومع ارتفاع موجة «عبادة الشخصية» و(التمحور حول الذات) لدى بعض المذيعين الذين يعملون في الفضائيات، حيث يكونون مذيعين في المساء- يقدّمون الأخبار أو البرامج التي «يقولون» عنها إنها محايدة وتقدّمُ طرفي القضية المتناقضين بعدل وإنصاف، نجدهم في النهار كُتّاباً يخالفون قيم الحياد ويغوصون في مستنقع الانحياز بملءِ أفواههم وشهاداتهم، ويعملون من أنفسهم «شهود» زور على وقائع ما زالت غير محسومة، كما هو الحال في المشهد المصري. فنقرأ لهؤلاء مديحاً لفئة من الفئات وتقريعاً وتكذيباً للفئة الأخرى؟. كما يحلو لبعض هؤلاء أن يكونوا «ناطقين» رسميين أو (شهوداً) لأحقية طرف في المشهد المصري ضد الطرف الآخر. ويقومون بتقديم أرقام وحوادث تتعارض مع الأحداث على الأرض! كما «يُهوّلون» المشهد الدرامي وحالات القتل ونزيف الدماء، بل ويحدّدون مواقع الرصاصات في جسم القتيل ولكأنهم بجانبه! تماماً كما يصفون (طبقة) صوت الأم المُنتحبة على ولدها وهي تولول. كما يقومون بتسفيه آراء الطرف الآخر في القضية واتهامه بالبهتان والخيانة والتزوير دون أن يقدموا أدلة قاطعة! كما يقومون بـ«تكذيب» البيانات الرسمية الصادرة عن بعض الوزارات في مصر، في تحدٍ واضح وتشكيك وتشويش للرأي العام، وإغوائه بعدم تصديق تلك البيانات. كما يقومون بإطلاق تسميات غير لائقة على خصومهم السياسيين، أو من لا يدور في فلكهم، مثل: الانقلابيين، العسكر الخونة، عملاء الخارج، المُضللين الإعلاميين، خط الانقلابيين الدموي، التخطيط لدولة بوليسية وغيرها. كما أنهم – ولربما لأحقاد دفينة تعود إلى أكثر من ستين عاماً يستحضرون سيرة الراحل جمال عبدالناصر ويربطونها بما يجري اليوم في مصر بصورة تنافي العقل والمنطق. كما أنهم يصفون المشهد الحالي في مصر بأنه حُكم الرجل الأوحد، والذي يعتمد على سلطة المخابرات فقط كما أنهم «يتنبأوون» بالمستقبل، ويُطلقون أحكاماً غيبية على حدثٍ لم يكتمل! وهذا بحد ذاته مخالفة لأصول كتابة المقال الصحفي. وفي الوقت الذين يُنصّبون أنفسهم شهوداً غير مقنعين على المشهد المصري، نجدهم يتهمون غيرهم بشهادة الزور، بل ويلقون الأحكام الجزافية على «المثقفين» المصريين، الذين يصفونهم كلهم بأنهم من أتباع مبارك! وهذا أيضاً موضوع لا يجوز التعميم فيه، بل إن بعض هؤلاء المذيعين ينشر مقالاته باسم برنامجه الذي يقدّمه في الليل، ونحن نعرف أن اسم البرنامج فيه (حقوق) للمحطة التي تبث البرنامج.
كلام كثير ومثير وغريب نقرأهُ لهؤلاء الصحفيين الذين يخرجون علينا ليلاً عبر الفضائيات ليقنعوا الناس بأنهم حياديون ومع الحق ومع الرأي الآخر بلا حدود! فكيف لنا أن نصدُّق دعواهم ونحن نجدهم يلبسون الأقنعة؛ ففي النهار هم منحازون لجماعتهم ولمن يدور في فلكهم، وفي الليل نجدهم يدافعون عن الحياد والرأي الآخر بلا هوادة؟ ويقومون بوضع الأجوبة في فم المتحدثين عنوة!
في الإعلام؛ نحن ندرك أهمية الصورة النمطية، وأهمية صفاء صورة المذيع في ذهن المشاهد، وإذا صرّح هذا المذيع علانية بأنه مع فريق من الأفرقاء المتخاصمين في المشهد المصري ودافع عنهم دفاعاً مستميتاً في النهار، فكيف نصدّقه بأنه محايد وهو يحاور شخصاً ويحاول أن «يلقمهُ» الأجوبة كي يكون في جانب الفريق الذي ينتسب إليه هذا المذيع.
نحن نرى ضرورة أن يلتزم المذيع والمقدم بسياسة المحطة التي يعمل فيها، على الأقل لكسب عيشه! ولا ضير في ذلك، لكن على المحطات أن توظّف مذيعين ومعدين محايدين يساعدونها في شق طريقها نحو نشر ثقافة الحياد والرأي الآخر، وبذلك تكسب الجماهير.
نقول لابد من النظر في هذه القضية حتى لا يفلت الأمر، ونمعنُ أكثر في الفوضى التي تكتنف الإعلام العربي، وقبل أن يصيب «التشويش» عقول مشاهدينا ويصبحون لا يميزون بين الحق والباطل والصدق والكذب. علينا وقف هذه الفوضى واستغلال بعض المذيعين «المؤدلجين» لمحطات خليجية بهذه الصورة المكشوفة، لتمرير رسائل سياسية لا تفيد هذه المحطات قدْر ما تضرّها وتُبعد المشاهدين عنها.
المصدر: صحيفة الاتحاد