برزت الدبلوماسية السعودية في أذكى وأرقى صورها وأكثرها هدوءاً واتزاناً وحسماً وقوة في الأسبوع الماضي، إثر مقابلة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في مركز الشؤون الخارجية في الولايات المتحدة، وانتشرت مقاطع اللقاء على أهم المواقع الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي.

تلك صورة ظاهرة للعيان والعلن للدبلوماسية السعودية يمثلها عادل الجبير، إنما لتلك الدبلوماسية كواليسها التي تعمل بصمت وتنسج بهدوء طريقاً تعبده وتمهد للمصالح السعودية.

وفي هذا السياق يمكن أن نقول إن ما هو مبهر في السر أكثر مما هو مبهر في العلن وظاهر للعيان، ففي تلك الكواليس تعمل الدبلوماسية السعودية على إحياء دورها الدبلوماسي في الملف السوري بهدوء يشابه ملامح الهدوء المرسوم على وجه وزيرها، لكنه عمل في منتهى الذكاء تماماً كردود وزيرها.

هذا الملف الذي ترك لسنوات حتى تغولت فيه كل القوى الأجنبية بما فيها إيران وإسرائيل وميليشيات ودول أخرى بسبب تراجع الدور الأميركي في عهد أوباما وأيضاً حتى بعد مجيء ترمب الذي كان قد أعلن عن نيته سحب القوات الأميركية من هناك، عادت له السعودية الآن لتنخرط في المفاوضات بعد أن أعاد البيت الأبيض النظر في سياسته الانسحابية.

إذ تعود السعودية لتحريك دبلوماسيتها كأحد الأطراف المعنية لا كشاهد عيان هذه المرة يجمع أطراف النزاع السوري على طاولة المفاوضات، إنما كطرف دولي مؤثر ومتأثر في ذلك الصراع، وذلك في بيان صدر عن الدول السبع المعنية بالشأن السوري وهي مصر والسعودية والأردن وأميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بمنح مبعوث الأمم المتحدة مهلة شهر لصياغة دستور جديد لسوريا إحياءً للحل السياسي، الذي جاء فيه «نحن وزراء خارجية مصر وفرنسا وألمانيا والأردن والمملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة نؤيد في البيان التالي تشكيل لجنة دستورية عاجلة لدفع جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سياسي للصراع في سوريا على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254«.

ولا يختلف مسار هذا البيان عما أوردته وكالة الأنباء السعودية الرسمية منتصف الشهر الماضي، والذي قدمت فيه المملكة مساهمة بمبلغ 100 مليون دولار لصالح «مشاريع استعادة مصادر الرزق والخدمات الأساسية»، رغم معارضة نظام الأسد ورفضه لهذه المساعدات، وينفذها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، في مناطق شمال شرقي سوريا، بعد تحريرها من تنظيم داعش.

التقطت الدبلوماسية السعودية التغير الجديد في السياسية الأميركية تجاه الملف السوري منذ اللحظة التي أعلن فيها الرئيس ترمب تراجعه عن فكرة الانسحاب من سوريا، واستفادت من إعادة تقييمه للموقف بناء على نصيحة وزير خارجيته مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون، وهنا يكمن الذكاء السياسي الذي لا يقدم مكافأة مجانية من دون مقابل، بل هي مصالح مشتركة بقدر اقتراب ما تعطيه من تلك المصالح تمد السعودية يدها.

وجود اثنين، كبومبيو وبولتون فرصة لا تعوض، والاثنان ممن يثق بهما ترمب إلى أقصى درجة وهما اللذان نصحاه بأن الانخراط في الملف السوري شر لا بد منه، ولا غنى عنه في استراتيجية التعامل مع إيران، كما لا يفوتها دلالات التغير الدراماتيكي في السياسة الأميركية بدخول شخص كجيمس جيفري مبعوثاً للخارجية الأميركية متولياً الملف السوري، فجيفري كما هو معروف، أحد الذين وقعوا عريضة مناهضة لترمب من موظفي جهاز الأمن القومي، وترمب لا يغفر ولا يسامح، لكن المصادر تشير إلى أن بولتون وبومبيو هما من أقنعا الرئيس ترمب بتعيينه في هذا المنصب لأنه من أشد منتقدي ترمب في سياسته الخارجية في الملف السوري تحديداً!!

فجيفري رافض للانسحاب ورافض لترك الملف برمته لروسيا ورافض تماماً للوجود الإيراني في سوريا، وتلك هي المسارات التي أخفق فيها ترمب، لذلك يأتي تعيين جيفري ليدل على أن السياسة الأميركية تجاه الملف السوري تغيرت وأصبحت تتفق تماماً مع المصالح السعودية.

وهنا تكمن الحنكة الدبلوماسية في مثل هذه الالتقاطات التي يجب أن تنتهز أقصى مدتها الزمنية التي قد تكون قصيرة في عهد ترمب، فالمشاركة في إرساء قواعد السلام وإعادة الإعمار دور منشود، لكنه لا يمكن أن يقدم دون مقابل لدور سياسي متصاعد.

البناء الدبلوماسي الصامت طول الأشهر الماضية تمكنت فيه السعودية من أن تنتهز فرصة التقارب الأميركي السعودي وتمكنت بالتنسيق والتعاون مع مصر والأردن كما حدث حول قرار الأردن باستمرار غلق منفذ نصيب الذي يشكل ضغطاً كبيراً على النظام السوري، في عودة قراره المؤثر في هذا الملف.

لذلك فإن الوجه الذي ظهرت به الدبلوماسية السعودية في لقاء الجبير الأخير، كان مثيراً للإعجاب وكان أيضاً مصحوباً بالذكاء والحنكة، ونتيجة لعمل فذ خلف الكواليس يستحق الإعجاب والتصفيق.

المصدر: الشرق الأوسط