كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي
مُدّ ناظريك على امتداد الساحة العربية، خارج محيط دول مجلس التعاون الخليجي، ماذا ترى؟ صراعات دموية، واضطرابات وقلاقل، وجماعات مسلحة تنازع الدولة سلطانها، في العراق يقاتل الجيش العراقي مجموعات متشددة تريد أن تقيم دولة للإسلام بحسب مفهومها، وفي سوريا الجيش يحارب شعبه ويذيقه العذاب كل يوم بالبراميل المتفجرة، وفصائل مسلحة تقاتل بعضها بعضاً بزعم الجهاد وإقامة دولة الإسلام، وفي لبنان «حزب الله» كوّن دولة الفقيه الدينية وأرسل ميليشياته تقاتل السوريين، وفي غزة استراحت «حماس» واستكانت بعد أن كوّنت دولتها الإسلامية، وفي مصر يخوض الجيش حرباً على جبهتين: «الإخوان» من جهة والتنظيمات المسلحة في سيناء من جهة أخرى، وفي ليبيا الميليشيات تقاتل بعضها بعضاً وتنازع الدولة سلطتها، وفي اليمن يسعى الحوثيون إلى تكوين دولتهم… المستفيد الأول من هذه الصراعات بطبيعة الحال هو إسرائيل. وكما يقول الصحفي الكبير غسان شربل فإن «إسرائيل اليوم في أفضل حالاتها، حققت انتصاراً فاحشاً من دون أن تخسر جندياً واحداً». ترى لماذا هذه الصراعات؟ ومن أجل ماذا؟ يقول المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري: إنها «صراع الدولة المدنية والدولة الدينية»، وأراه صادقاً فيما قال، فهذه الصراعات وإن اتخذت وجهاً طائفياً أو دينياً أو أيديولوجياً، هي في النهاية لا تخرج عن صراعات بين أنصار الدولة الدينية بكافة أطيافها، وأنصار الدولة المدنية بكافة ألوانها. لكن ما هي العوامل التي أدت إلى بروز هذه الصراعات في هذه المرحلة التي يمر بها العرب؟
أتصور أن هناك عدة عوامل أبرزها:
العامل الأول: فشل الدولة الوطنية منذ الاستقلال في تعزيز مفاهيم المواطنة والانتماء على أرض الواقع، في ممارسة يومية يحسها ويعيشها المواطن في بيته ومتجره ومعمله ومصنعه ومدرسته وجامعته.
إن الدولة الوطنية في العالم العربي عجزت عن الوفاء باحتياجات مجتمعاتها في لقمة العيش الكريمة، وفي ترسيخ ثقافة التسامح بين مكونات المجتمع. وحينما تكونت الدولة الوطنية الحديثة ونصت دساتيرها على «المواطنة»، بقيت نصوصاً مجردة، بعيدة عن الواقع في حياة المجتمع، وكانت النتيجة، وبالرغم من كل مظاهر التحديث والتعليم والتنمية، إخفاق الدولة في غرس مفهوم المواطنة وتعزيز الانتماء الوطني باعتباره الرباط الجامع للمواطنين، والذي يعلو كافة الولاءات والانتماءات الأخرى، كالطائفية والقبلية والمذهبية والأيديولوجية، فكان من الطبيعي، لجوء الفرد إلى قبيلته وطائفته وجماعته الدينية أو الأيديولوجية للاحتماء بها باعتبارها الملاذ الآمن من قسوة السلطة، وأيضاً للحصول على المغانم والمصالح والنفوذ حيث الفرد لا قيمة له إلا بقبيلته وعشيرته وجماعته، وهذا أدى إلى زيادة جرعة التعصب، تعصب الفرد لقبيلته ولطائفته ولجماعته، ثم المزيد من الاحتقان والذي تفجر أخيراً في سلسلة صراعات عنيفة ودموية استغلتها أطراف خارجية.
إن الاختلافات المذهبية والدينية والسياسية نعمة ومزية، لكن في حضور الانتماء الوطني الأعلى، بيد أنها قد تتحول إلى نقمة وفرقة، إذا وظفت واستثمرت طائفياً أو مذهبياً أو أيديولوجياً. لذلك لا يمكن الحديث عن مفاهيم المواطنة والانتماء في بيئة تعاني قطاعات عريضة من المجتمع فيها هضماً في حقوقها الأساسية؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
العامل الثاني: في بروز الهويات الضيقة المتصارعة: الموروث الفقهي السياسي (الحي) في نفسية الجماعات والقائم على شرعنة «إمامة التغلب» كأسلوب للوصول إلى السلطة، ثم اصطفاء المغانم وإقصاء الآخرين، إذ ظلت على مر أكثر الحقب في التاريخ الإسلامي سياسة الإقصاء هي السياسة الممارسة من قبل كل طائفة حاكمة ضد الطوائف الأخرى.
ويبدو أن ثقافة العرب السياسية لم تخبر إلا نمطين من الحكم: نظام الحكم العضود الذي كان يجمع فيه الأمير كافة السلطات ويعتمد على عصبيته القبلية ذات الشوكة القاهرة كما وضحها ابن خلدون. ونظام «الحكم الفردي» المستند إلى قوة العسكر.
خبرة العرب تعثرت في عملية بناء دولة المواطنة فانتقلوا من الحكم التقليدي المطلق إلى حكم الفرد المطلق، ومن هنا ظهرت الميليشيات تنازع الدولة في ولاء المواطنين وتقدم لهم خدمات عجزت الدولة عن تحقيقها. وكما يقول الدكتور إبراهيم عرفات «لم يكن عجيباً أن يربط الفكر السياسي بين ضعف الإحساس بالمواطنة وعجز الدولة عن إشباع الحاجات».
العامل الثالث: الحنين الرومانسي الغلاب إلى تلك الدولة المثالية التي تطبق الشريعة وتفرض الفضيلة وتلزم المجتمع بقيم الإسلام كُرهاً. وكما يقول الدكتور عبدالوهاب الأفندي في كتابه الفذ «لمن تقوم الدولة الإسلامية؟»، إن هدف هذه الحركات -جميعاً- دولة إسلامية تحرم المواطن من حرية ارتكاب الإثم، فهي تنازع الدولة الوطنية شرعيتها لأنها لا تجبر المواطنين -رغم أنوفهم – على اتباع طريق الفضيلة والتزام قيم الإسلام، وكل ذلك تمهيداً وسعياً لإحياء نظام الخلافة الذي أسقطه أتاتورك 1924 وأبكى العالم الإسلامي من ذلك اليوم وإلى يومنا هذا.
المصدر: الاتحاد