بعد سقوط الإمبراطوريات ونشوء الدولة الوطنية كانت الإشكالية الكبرى تتمثل في شخصية الدولة وقيمها، فالدولة الوطنية قائمة على التنوع والاختلاف في العقائد والمذاهب والتوجهات القيمية اجتماعيا وسلوكيا. ومرت الدولة الوطنية، وبخاصة في الدول الناشئة، بمراحل يمكن تلخيصها في التالي: مرحلة الدولة الدعوية القيمية، أي الدولة ذات العقيدة المهيمنة على رؤيتها والمؤسِسة لشرعيتها وبخاصة في الوسط الاجتماعي الذي نشأت به تلك الدولة.
إن غياب الوعي المدني في تلك المجتمعات وانتشار البداوة والقبلية وهيمنة الأعراف الاجتماعية تجعل من اتخاذ السياسي لعقيدة ما أمرا حتميا وضروريا لأنه يمثل لحظة الالتفاف والإجماع الذي تتوحد عليه تلك الشرائح الاجتماعية المختلفة، فلا يمكن لقبيلة أن تحكم بقية القبائل، ولا يمكن لعرف ما أن يخضع له الجميع، لكن وجود مؤسسة جديدة وإطلاق مسمى الدولة والتمسك بعقيدة يؤمن بها الجميع مثل القاعدة الكبرى لنشوء الدولة والإدارة الأنسب لتلك الفترة.
الواقع يؤكد أن الدولة الوطنية الحديثة لا يمكن أن تعتمد سياسة واحدة في كل مراحلها ولا نمطا سياسيا واحدا يهيمن على كل أزمنتها، بل إن الدول التي فعلت ذلك لم تستطع الصمود ولا مواجهة التحديات الكبرى سواء في الداخل أو الخارج.
يمثل استيعاب الوعي الاجتماعي العام أمرا محوريا لدى السياسي، والحقيقة أنه ليس الناس على دين ملوكهم، بل الملوك أوسع استيعابا للناس ولما يريدونه من الدولة قيميا واجتماعيا وثقافيا وهذا لا يتنافى مع النضج المستمر للدولة والمراقبة المستمرة لتحولات المجتمع لإدارة حالة من الشراكة في القيم والأعراف عبر تشريعات وأجهزة وقرارات تستوعب كل مرحلة وظروفها ومستوى الوعي الاجتماعي العام.
تريد المجتمعات المحافظة أن تكون للدولة مسؤولية أخلاقية سلوكية، وفي مرحلة ما تتكثف هذه المطالبات بما يعكس مستوى الوعي الاجتماعي في تلك المرحلة، مثلا انتقال المجتمع من القرية والجماعة إلى المدينة يجعله في حالة من الخوف والقلق على قيمه التي كان يحافظ عليها انطلاقا من اللون الواحد الذي يعيشه فلا يوجد مختلفون عنه في الجماعة أو في القرية، بينما في المدينة أخلاط وتنوع غير مألوف بالنسبة له، هنا تشتد المطالبة بأن تكون للدولة مسؤولية أخلاقية سلوكية تميل لتجسيد قيم المحافظة الاجتماعية واقعا يصل بالشارع إلى حالة من الطمأنينة.
بطبيعة الحال وفي التجربة السعودية وقعت تلك المؤسسات التي أسندت إليها المسؤوليات الأخلاقية في أخطاء كبرى جعلتها تمثل عبئا على الدولة وعلى المجتمع، ودخلت تلك المؤسسات في توجهات حزبية وحركية لصالح أهداف سياسية تتجاوز ما هو موكل إليها.
لكن الأهم من كل ذلك أن الدولة ظلت تراقب دائما تحولات الوعي الاجتماعي ووعي الأجيال الجديدة، وكيف وصل ذلك الوعي إلى مرحلة الرشد العام والنضج الاجتماعي المؤمن بالتنوع والحريات، وقبل أن يتحول ذلك إلى لحظة خلاف بين الشارع بوعيه الجديد وبين تلك المؤسسات اتجهت الدولة لبناء واقع اجتماعي جديد خرجت فيه من المسؤولية الأخلاقية اليومية إلى المسؤولية القيمية القانونية النظامية التي تحمي القيم العامة وتحافظ على مستوى مسؤول من الحريات والتنوع والحقوق.
هذه مرحلة محورية جدا من مراحل التحول الاجتماعي التي تديرها الدولة بوعي يتوازى مع تحولات الوعي العام في الشارع، وحين تصل الدولة إلى المسؤولية القيمية والقانونية تصبح في مرحلة تحضر جديدة من شأنها أن تؤسس لمراحل قادمة أكثر مدنية وانفتاحا.
الدولة الحديثة لا علاقة لها بدرجة إيمانك، علاقتها تكمن في ضبط السلوك والحياة اليومية ضمن منظومة من القوانين المبنية على القيم الكبرى للمجتمع وثقافته.
من الطبيعي في هذه الفترة أن تسمع بعض الأصوات التقليدية المحافظة لا تزال تنادي بوجود مؤسسات تنزل إلى الشارع لضبط السلوك العام، هذا بالطبع غير ممكن، لأن السلوك العام بكل بساطة سلوك متنوع وليس واحداً لا يمكن أن يضبطه أفراد أو مؤسسة انطلاقا من زاوية فقهية واحدة أو بناء على حكم فقهي واحد، وثانياً لأن مستوى الوعي العام وثقافة الحريات الشخصية أصبحت تأنف من وجود من يمكن أن يتدخل في هيئتك أو يمنع سماع الموسيقى أو يفرض على النساء طريقة معينة للباس.
هذه كلها من الماضي، والكلمة الكبرى للنظام والقانون الذي يدير الحياة اليومية ويحافظ على الذوق العام والآداب العامة ويحتفي بحريات الناس وخياراتهم دفاعا عنها وحماية لها من الاختراق.
هذه مرحلة جديدة وتحول ضخم نحو مستقبل أكثر مدنية وحرية واعتدالا.
المصدر: عكاظ