وائل زكير: في أعماق كهوف الحجر الجيري، حيث يرقص ضوء المشاعل القديمة على الجدران الرطبة، بقيت خطوط غامضة محفورة على الطين والصخر ، تذكارات صامتة من بشرٍ عاشوا قبل عشرات آلاف السنين.
هذه النقوش، المعروفة باسم “أخاديد الأصابع” (Finger Flutings)، وهي أقدم أشكال الفن والتعبير الرمزي المعروف لدى الإنسان، لطالما حيّرت العلماء؛ إذ لم يعرف أحد هل كانت فنا رمزيا، أم طقوسا سحرية، أم وسيلة تواصل؟ لكن بفضل الذكاء الاصطناعي، بدأ الغموض يتبدّد أخيرا.
وباستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، تمكن باحثون من جامعة جريفيث الأسترالية من تحليل أخاديد الأصابع المحفورة في كهوف ما قبل التاريخ، وهي خطوط غامضة عمرها أكثر من 60 ألف عام.
قام العلماء بتدريب نماذج حاسوبية على دراسة طريقة حركة الأصابع وضغطها عند صنع هذه الأخاديد، فاستطاع الذكاء الاصطناعي تمييز الاختلافات بين الرجال والنساء بدقة وصلت إلى 84٪.
بهذا، خطا العلم خطوة كبيرة نحو فهم هوية البشر الأوائل الذين تركوا هذه العلامات الغامضة على جدران الكهوف.
وأطلق فريق بحثي من جامعة جريفيث الأسترالية مشروعا رائدا يهدف إلى تحليل هذه الأخاديد القديمة باستخدام تقنيات التعلم الآلي (Machine Learning)، في محاولة للإجابة عن سؤال طال انتظاره: من صنع هذه العلامات؟
فمن خلال المزج بين علم الآثار الرقمي والذكاء الاصطناعي، طوّر الباحثون إطارا تحليليا جديدا لتحديد جنس صانعي الأخاديد في عصور ما قبل التاريخ، وهو إنجاز غير مسبوق في هذا المجال، وفقاً لـ “dailygalaxy”.
تقول الدكتورة أندريا جالاندوني، عالمة الآثار الرقمية والمؤلفة الرئيسية للدراسة المنشورة في مجلة Scientific Reports: “نحاول الانتقال من الافتراضات والتخمينات إلى تحليلات قائمة على بيانات قابلة للتكرار. هذه العلامات قد تكون من أقدم أشكال التعبير الرمزي للإنسان، وما زلنا في بداية الطريق لفهم رسائلها.”
كيف درّب الذكاء الاصطناعي نفسه على “لغة الأصابع”؟
لبناء قاعدة بيانات دقيقة، أجرى الفريق تجربتين شملتا 96 مشاركا بالغا، طُلب منهم رسم تسعة أخاديد بأصابعهم في بيئتين مختلفتين: بيئة واقعية مادية باستخدام طين يشبه جدران الكهوف. وبيئة افتراضية رقمية عبر خوذة الواقع الافتراضي Meta Quest 3.
هذه المقارنة سمحت بتسجيل أنماط الحركة والضغط وديناميكيات اليد في العالم الحقيقي والرقمي على حدٍ سواء.
بعد ذلك، تم تدريب شبكتين عصبيتين شهيرتين — ResNet-18 و EfficientNet-V2-S — على تصنيف الأخاديد وفقاً لجنس من صنعها.
النتيجة
النماذج المدربة على الأخاديد الواقعية حققت دقة وصلت إلى 84%، وهو رقم مدهش بالنظر إلى أن التقنية تتعامل مع خطوط بسيطة محفورة منذ آلاف السنين. أما النسخة الافتراضية فكانت أقل نجاحا، بسبب غياب الإحساس اللمسي الطبيعي الذي يوجه حركة اليد.
مع أن النتائج مشجعة، فقد حذر الباحثون من أن النماذج تميل أحيانا إلى “التعلّم الزائد” (Overfitting) — أي التقاط أنماط خاصة بالبيئة التجريبية بدلا من السمات العامة القابلة للتعميم على كهوف حقيقية.
يقول الدكتور جيرفاس توكسورث، عالم الحاسوب وعضو الفريق: “نريد أن نمنح الذكاء الاصطناعي منظورا أكثر موضوعية، لكنه ما يزال يحمل بصمات بيئته. لا نزال في المراحل الأولى من الفهم الحقيقي لهذه العلامات.”
إعادة النظر في الماضي
تأتي هذه الدراسة في وقتٍ يعيد فيه علماء الآثار تقييم الأساليب القديمة في تحليل فنون الكهوف.
فقد كشفت مراجعة علمية عام 2024 في “Journal of Archaeological Method and Theory” أن محاولات تحديد جنس فناني الكهوف عبر قياسات عرض الأصابع أو تباعدها كانت غير موثوقة ومليئة بالتحيّزات.
فالأسطح غير المنتظمة، وتفاوت ضغط اليد، وتشوهات الألوان، كلها عوامل تجعل من الصعب الوصول إلى نتائج دقيقة.
علم مفتوح المصدر
على عكس كثير من المشاريع العلمية المغلقة، قرر فريق جامعة جريفيث جعل جميع بياناته وأدواته متاحة للعامة على منصة GitHub.
يتضمن المستودع كود التدريب، والبيانات الأصلية، وسير العمل الكامل باستخدام دفاتر Jupyter، بالإضافة إلى أدوات المعالجة المبنية على نموذج SAM2 للذكاء الاصطناعي.
يقول الدكتور روبرت هاوبت، عالم المعلومات المشارك في المشروع: “نحن لا نزعم أن هذا هو الحل النهائي، لكنه بداية طريق جديد. نريد من العلماء الآخرين تحسين أدواتنا واستخدامها لدراسة نقوش أو آثار أخرى.”
استعادة أصوات من الماضي السحيق
بعيدا عن الجانب الأكاديمي، يفتح المشروع آفاقا ثقافية وإنسانية أعمق. في بعض الثقافات الأصلية — خاصة في أستراليا — يُعتبر تحديد ما إذا كانت علامات الكهوف من صنع رجل أم امرأة أمرا مرتبطا بحقوق التفسير والملكية الثقافية، ما يمنح الدراسة بُعدا اجتماعيا واحتراميا للتراث المحلي.
تختم جالاندوني حديثها بكلمات تلخص روح المشروع: “الأمر لا يتعلق فقط بتحديد من صنع هذه الأخاديد، بل بفهم ما كانوا يحاولون قوله منذ عشرات الآلاف من السنين. إنها محاولة لإعادة الإنصات إلى أصوات أُسكتت منذ زمنٍ بعيد.”
المصدر: البيان




