كاتب سعودي
أجد نفسي مجبراً على العودة إلى موضوع الرياضة وأهمية دورها كرافد من روافد التنمية الاقتصادية والبشرية بعد صدور الأمر الملكي غير المسبوق بإنشاء 11 إستاداً رياضياً جديداً، في عدد مساو من مدن المملكة لا يشمل الرياض وجدة، تزامن هذا الأمر مع تسمر الملايين داخل الوطن وخارجه بالطبع لمتابعة مباريات كأس العالم عبر الشاشات والمقامة حالياً في مدن عدة في البرازيل، وعلى المستوى الشخصي وأنا هذه الأيام في زيارة إلى الولايات المتحدة، لا يمكن أن أغفل عن التداعيات الإيجابية لهذا الحدث العالمي الكبير كما أراه أمامي في كل مكان، خصوصاً بعد نجاح الفريق الوطني الأميركي في الانتقال إلى المرحلة الثانية من البطولة بمساعدة «كريمة ومجانية» من فريق البرتغال الذي هزم كينيا، قبل عشرة أيام فقط كنت متابعاً لفوز فريق سان أنطونيو بكأس بطولة المحترفين في كرة السلة الأميركية بعد تغلبه على فريق مدينة ميامي بأربع مباريات لواحدة، وبعد موسم حافل بالمباريات امتد على مدى سبعة أشهر تقريباً، في الأسابيع القليلة الماضية أقيمت في باريس ونيويورك ولندن ثلاث بطولات عالمية مفتوحة للتنس، وهي مناسبات سنوية تقام في مثل هذه الأوقات في كل عام، تضاف إليها بالطبع بطولة أستراليا ودبي وفرانكفورت والدوحة وغيرها ولكن في أوقات أخرى، هذا غير بطولات الغولف والبيسبول التي لا تتوقف، وغير بطولات أوروبا المتنوعة ودوريات كرة القدم الرائعة والمثيرة في كل دولة، وما تحظى به من متابعة عالمية، بينها بالطبع متابعة الجماهير السعودية.
أنا هنا لا أتحدث عن النواحي التنموية المتصلة بالفرق ورواتب اللاعبين والتدريب والتحضير فقط، بل عن التأثير الاقتصادي الهائل والأوسع الذي تخلفه هذه المناسبات، إعلامياً هناك حقوق بث وتغطية إعلامية تتسابق عليها المحطات التلفزيونية والمؤسسات الصحافية، وتنفق في سبيل الحصول على هذه الحقوق مئات بل وآلاف الملايين من الدولارات، هذه المحطات والمؤسسات توظف آلاف الفنيين والإداريين من ذوي الاختصاص في سبيل الوفاء بهذه المهمة، هناك من الجهة الأخرى تحرك الجماهير وتنقلاتهم لمتابعة هذه الأحداث، غني عن القول إن إشغال الفنادق في مدن البرازيل هذه الأيام هو الأعلى في تاريخها، ليس البرازيل فقط بل وكل المدن التي مررت عليها قبل قليل. من الذي يدير هذه الفنادق ويحافظ على جودتها الراقية؟ هناك الحجوزات على وسائل النقل قطارات وطائرات وسيارات أجرة داخل المدن، وهي بلا شك كبيرة وقوائم الانتظار طويلة، هذا الاندفاع يتطلب الكثير من الإعداد اللوجستي لتلبية الطلب والمحافظة على المستويات المتوقعة، هناك المطاعم ومراكز التسوق في هذه المدن التي بلا شك تغص بالضيوف في جميع الوجبات، على المستويات الفنية لا بد من الحديث عن مسؤولي الصيانة لهذه المنشآت ومواد البناء والزراعة وغيرها.
كل ما أتيت عليه من مناسبات في هذه العجالة لم يكن لينجح لولا الكوادر البشرية التي تديره بكل إتقان وتحافظ عليه، إذاً فالحديث عن الرياضة وأنها تعتبر رافداً للتنمية يعني تحديداً أن الرياضة بجماهيريتها الضخمة وجودتها التنافسية بعد الإعداد السليم لها فنياً وتنافسياً، تعني خلق المزيد من فرص العمل. لا فرق إطلاقاً بين مشروع صناعي يتم تأسيسه ويوظف مئات العاملين به، وبين الاستثمار في تنظيم مناسبات رياضية كهذه، بل إن هذه المناسبات تخلق فرص عمل أكثر بكثير مما تخلقه المصانع، كون الأخيرة تعتمد كثيراً على الآلة بينما الأولى على البشر، هذه المناسبات أيضاً متنوعة في وظائفها، فهي تتصل بالسفر والضيافة والصيانة والتسويق والإعلام والدعاية والإعلان والبناء والصيانة، المصانع شبه جامدة بالمقارنة، هذا لا يعني التقليل من أهمية الصناعة، على الإطلاق لا ومن يقول ذلك فهو جاهل، لكن الحديث هنا هو لتوضيح أهمية القطاعات الأخرى في اقتصاديات الدول ولتبيان حقيقة الحاجة إلى التنويع مع ضرورة المحافظة على الجودة.
أعود إلى ما بدأت به وأتساءل هل كنا «دولة ومجتمع وخبراء» نعي حقيقة أهمية التنوع في الاقتصاد وأهمية الشق الرياضي تحديداً؟ الملك حفظه الله لا بد وأنه مدرك لذلك عندما أمر بإنشاء «جوهرة جدة» قبل عام ونصف العام، وعندما أمر ببناء هذه الملاعب الجديدة قبل أسبوع، والراحل الكبير فيصل بن فهد رحمه الله كان أيضاً مدركاً لذلك قبل عقود عندما تبنى تشييد «درة الملاعب» إستاد الملك فهد الدولي بالرياض، على أن نجاحنا في الرياضة يتجاوز كثيراً الحاجة إلى وجود المنشآت، علينا التفكير ملياً ببحث السبل الكفيلة برفع المستويات، أقصد هنا المستوى الفني للفرق والمنتخبات، والمستوى المتعلق بالجودة في المكان كالنقل من جهة، والمحافظة على المنشآت والمكتسبات بشكل عام. في ما يتعلق بالمستوى الفني لا بد من البدء بالتخصيص وفتح أبواب التنافس، ورفع مستويات المحفزات والعمل على نشر الرياضة بجميع تفرعاتها لإكسابها الشعبية والمتابعة. الرياضة ليست فقط مباريات في كرة القدم، بل وفي السلة والتنس والسباحة وسباقات الخيل، الرياضة وهي الأهم لفئة الشباب تعني أيضاً الحاجة إلى المزج بينها وبين الفن، نشاهد في كل مناسبة كبيرة دخول الفن ضمن الفعاليات سواء أكان قبل أم أثناء أم في ختام المناسبات، بل إن الفن حاضر في كثير من المناسبات الرياضية ليملأ الفراغ ما بين الشوطين في المباريات النهائيات المهمة، كما يحدث في مباراة السوبر بول الأميركية.
حتى ننجح في الرفع من مستويات الألعاب الأخرى يجب التخطيط لتأسيس رابطات للاحتراف في التنس والغولف والبولينج والسباحة على غرار الاتحاد السعودي لكرة القدم، وهو الجهاز الذي يديره رئيس منتخب، علينا أيضاً تنظيم البطولات المفتوحة لبعض الألعاب الفردية كالتنس مثلاً في المملكة، ليس ذلك فقط، بل استغلال العديد من مدننا الجميلة بطبيعتها الجغرافية الخلابة كمدينة الباحة مثلاً، أو الطائف لتكون مقراً صيفياً سنوياً لاحتضان هذه البطولات. هنا يكون الحديث الفعلي عن توزيع الثروة، فالمملكة ليست فقط جدة والرياض والدمام، وترجم الملك حفظه الله ذلك في أمره الأخير. نعم ربما تبدو البدايات ضعيفة لكنها ستنمو وسيشتد ساعدها لتصبح عالمية في زمن قصير، علينا رفع التحسس من مسألة النساء والسماح فوراً بدخول العائلات إلى الملاعب، أقول ذلك لأن هذا الموضوع كان سبباً في ترددنا بتنظيم العديد من النهائيات العالمية، معروف أن الاتحادات العالمية لشتى أنواع الرياضة لا تسمح بالتفرقة بين الجماهير على أساس الجنس، فلماذا نصر وبقوة أن نمنع النساء من دخول الملاعب؟
لا تخفى هذه الأطروحات بالطبع على عقل الأمير عبدالله بن مساعد بن عبدالعزيز، الذي تم تعيينه قبل يومين رئيساً عاماً لرعاية الشباب خلفاً للأمير نواف بن فيصل بن فهد، فالأمير عبدالله كان مسؤولاً عن ملف التخصيص الذي يناقش حالياً بحسب علمي في المجلس الاقتصادي الأعلى، لكن الأهم من كل ما تم ذكره هو الوقت. المملكة وفي الأعوام القليلة الماضية بدأت في صراعها المنتظر الذي حذرنا منه كثيراً مع البطالة، وأعداد الخريجين الجدد تتفوق على عدد فرص العمل الجديدة، بلادنا في هذا الوقت تحديداً بحاجة ماسة إلى خلق المزيد من الوظائف، من خلال التنوع الاقتصادي الذي يشمل الرياضة والفن والترفيه والترويج والسياحة. المملكة بحاجة إلى زرع الابتسامة على شفاه الناس والانشغال بالتنمية والتنافس على الجودة، لا خيارات أخرى أمامنا غير الانطلاق والانفتاح ومنافسة المنطقة والعالم، وأعيد ما سبق وأن طرحته سابقاً وفي أكثر من مقالة، وهو أن الحاجة إلى هذه التفرعات في البناء الاقتصادي ليست حصراً على بلادنا فقط، الحقيقة أن هذه التفرعات تعتبر ركائز اقتصادية أيضاً في أعظم وأضخم الدول الصناعية حول العالم، ولولا وجودها لارتفعت لديهم نسب البطالة بشكل مرعب.
لنفعل ذلك وننجح به بما يوازي التفوق ونغلق الأبواب أمام المتربصين بنا من كل أرض ولون وعرق، لنتذكر أنه كلما زادت مكتسباتنا داخل الوطن وكلما عمت البهجة نفوسنا وأصبحت السعادة جزءاً من حياتنا وروتيننا في بلادنا كلما أصبح الوطن والمواطن سداً منيعاً أمام الأعداء، الأعداء لا ينجحون إلا في الوحول والمستنقعات وغموض الرؤية، ولا يتصيدون لتجنيدهم إلا الحيارى والفاشلين من أبناء الوطن، وهذه حقيقة تدعمها كل الشواهد التاريخية قديمها وحديثها.
المصدر: الحياة