كاتب سعودي
في يومين شهدت الرياض أربع قممٍ؛ قمة سعودية – مغربية، وقمة خليجية – مغربية، وقمة سعودية – أميركية، وقمة خليجية – أميركية، كانت الرياض فيها محط أنظار العالم على كل المستويات.
ذلك أن المملكة العربية السعودية أصبحت بالفعل لا بالقول دولةً كبرى في المنطقة ولها تأثيراتٌ مهمةٌ على المستوى الدولي، وقد كانت نتائج هذه القمم الأربع تصب في مصلحة السعودية ودول الخليج والدول العربية وشعوبها.
لقد بات واضحًا أن السعودية ودول الخليج صارت محط أنظار الملكيات العربية المستقرة في المغرب والأردن، والجمهوريات العربية الناجية من فوضى ما كان يعرف بالربيع العربي، في مصر واليمن، وتونس وليبيا، وسوريا، وهي تعمل على مساعدة الجمهوريات الأقدم انخراطًا في الفوضى مثل العراق ولبنان، وهي تعرف خصومها وحلفاءها بوعي كامل.
وقفت دول الخليج موقفًا داعمًا للمملكة المغربية الشقيقة، وهو موقفٌ مستحقٌ، فالتوافق في السياسات والتقارب في الأهداف، والمصالح المشتركة والمخاوف المتبادلة تجاه ملفات الإرهاب وإيران والتاريخ المميز كان الأساس الذي بني عليه هذا التطور السياسي الكبير الذي أعلن عنه في القمة الخليجية – المغربية.
لن يكتمل عقد هذا التوجه السعودي والخليجي إلا بالالتفات للمملكة الأردنية الهاشمية التي تشهد كل مواقفها السياسية في عهد الملك عبد الله الثاني أنها حليفٌ مهمٌ على كل الصعد، وأنها لم تخالف يومًا سياسات دول الخليج وتوجهاتها، ومن هنا فيجب أن تتلقى عناية خاصة في تطوير العلاقات الخليجية معها، وبناء أفق أرحب في توطيد العلاقات وتعزيز المصالح المشتركة وتوسيعها معها، وهي التي زارها ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مباشرةً بعد الزيارة الملكية التاريخية لمصر.
في القمتين السعودية – الأميركية والخليجية – الأميركية، ليس سرًا أن العلاقات الخليجية – الأميركية تشهد فتورًا، والذي ليس سرًا أيضًا هو أن رسوخ العلاقات التاريخية كان على الدوام أقوى من أي شخصٍ أراد التقليل من شأنها أو التغافل عنها، وبخاصة حين يكون سعيه وجهده مخالفًا لثوابت السياسة الأميركية، وهو ما أقر به الرئيس فيما نشره موقع «ذا أتلانتيك» من أن المؤسسات السياسية الأميركية منعته من أن يتخلى عن اعتبار السعودية بلدًا حليفًا.
وباختصارٍ سريعٍ، ففي كتابه «الدبلوماسية من القرن السابع عشر حتى بداية الحرب الباردة» يلخص هنري كيسنجر في الجزء الأول العمق التاريخي لسياسات الولايات المتحدة الأميركية، ويذكر القرن السابع عشر و«الكاردينال رشليو» والطراز الحديث من العلاقات الدولية القائم على مفهوم دولة الأمة، والثامن عشر حيث وسعت بريطانيا مفهوم «توازن القوى» الذي هيمن على الدبلوماسية الأوروبية لمائتي سنة.
وبعد ذلك القرن التاسع عشر، ونمسا مترنيخ التي أعادت بناء الأسرة الأوروبية التي فككها بسمارك بإعادة تشكيل الدبلوماسية بهيئة مباراة سياسة القوة، وصولاً إلى القرن العشرين حيث ارتقت الولايات المتحدة الأميركية للمشهد الدولي بحجم قوةٍ غير مسبوقٍ.
وقد تأرجحت أميركا بين الواقعية والمثالية، وبين الانعزالية والالتزام تجاه العالم، ويذكر كيسنجر كيف أن كبرى الاتفاقيات الدولية لهذا القرن قد أطرتها القيم الأميركية، وعصبة الأمم، وميثاق الأمم المتحدة، واتفاقية هلسنكي.
ومن بعد كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية، وكانت الحرب العالمية الباردة بين المعسكرين الأميركي الغربي والروسي السوفياتي، ويؤكد كيسنجر أن «نظام توازن القوى نادرًا ما وُجِد في التاريخ الإنساني»، وكيف «بدا الاتحاد السوفياتي السابق عملاقًا عسكريًا وقزمًا اقتصاديًا في الوقت ذاته».
الولسونية والروزفلتية كانتا رؤيتين تنازعتا السياسات الكبرى لأميركا ودورها في العالم، وقد «كان وودرو ولسون تجسيدًا لعرف الانعزالية الأميركية وأرسى جذور المدرسة الفكرية التي خيمت على سياسة أميركا الخارجية»، ولكن فيما بعد «تطورت سياسة أميركا، غداة الحرب العالمية الثانية، لتغدو شرطية عالمية مهمة كما رآها روزفلت» – كيسنجر.
والرئيس الأميركي الحالي ينتمي لتلك المدرسة الولسونية القديمة، وقد أبان عن انعزاليته في كل سياساته ومواقفه، ووصل في ذلك إلى مدى أضرّ بمكانة أميركا حول العالم.
سعوديًا، وباختصارٍ شديد أيضًا، فقد كانت رؤية الملك عبد العزيز ثاقبةً في الانحياز لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، والانحياز لأميركا في الحرب العالمية الثانية، والتي توّجها بلقائه الشهير مع روزفلت في البحيرات المرة بمصر بعد مؤتمر يالطا الشهير 1945.
وبحسب الزركلي، فقد أوصى الملك عبد العزيز ابنه وولي عهده الأمير سعود بما أملاه على بعض كتّابه، ومنهم فؤاد حمزة «إرشادات وإشارات» قائلاً: «أكدوا للرئيس ولرجال حكومته ولجميع من تقابلونهم، وفي جميع المناسبات التي يتاح لكم الحديث فيها، محبتنا لأميركا وتمسكنا بالمبادئ التي أعلنت ولا تزال تعلن عنها». وأضاف رفضه لتيار الانعزالية قائلاً: «وأظهروا لهم أننا قد نظرنا بعين الرضاء والاطمئنان، إلى ترك الولايات المتحدة سياسة العزلة والانقطاع التي كانت تسير عليها في الماضي» (ص 776).
وهو قد أوضح بجلاءٍ سياسات رجل الدولة التي اعتمدها لمصلحة دولته وشعبه، ومن ذلك قضاؤه على تحدي المتشددين المقاتلين في «السبلة» وإرغامه المتشددين النظريين بترك الشؤون السياسية والعسكرية له، وأبان عن رفضه للتمييز العنصري بقوله: «فإننا لسنا عنصريين ولا من دعاة التفريق والتمييز بين الناس، بسبب أنسابهم وعقائدهم، ولسنا نقاوم اليهود لأنهم يهود، ولكنا نقاوم السياسة التي يدعو إليها بعض اليهود. أي الصهيونيين» (ص 778). وقال أيضًا: «لا يسأل أحد عن مذهبه أو عقيدته. ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين أن يثير الفتنة» (ص 793).
فهو كملكٍ وقائدٍ، لم يكن يسمح لأحد بالمزايدة عليه في إدارة الدولة أو التدخل في شؤون قيادتها، ورسم أولوياتها، والحفاظ على وحدتها وسيادتها، ولم يكن في ذلك كله خاضعًا لإملاء أي جهةٍ داخليةٍ أو خارجيةٍ، بل هو محض الشعور بالمسؤولية وبناء مستقبل الدولة وترسيخ أقدامها.
هذا العرض التاريخي شديد الاختصار يوضح تاريخ الدولتين والعلاقات بينهما، ويكشف حجم الزيف لدى كثير ممن يتناولون هذا الملف عبر دس السم لرغباتٍ شتى ويضع المشهد الواقعي في مكانه الطبيعي دون مبالغةٍ أو تحريفٍ أو اتهام.
أخيرًا، فقد حدث هذا، والسعودية تنتظر بفارغ الصبر الإعلان عن الرؤية المستقبلية للسعودية 2030 التي سيتم الإعلان عنها غدًا في يوم تاريخي سيظل عالقًا في الأذهان في مهمة جلّى بما تشتمل عليه من تطويرٍ يتصف بالشمول والتكامل، والقيادة السعودية الشابة تحت رعاية الملك سلمان تؤسس لسعوديةٍ جديدةٍ تصنع الواقع وتبني مستقبل الأجيال.
المصدر: الشرق الأوسط