حين يجتمع الرئيس الأمريكي جو بايدن مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في الـ16 من الشهر الجاري بجنيف، يكون قد انتهى من إعداد بنية التحالفات الاستراتيجية ومواقع الخصوم مع الولايات المتحدة حول ما أسماه بايدن «التنافس على الفوز بالقرن الـ21»، وتبرز الصين كخصم أول في هذا الإطار رغم التباينات الكبيرة أيضاً بين الغرب وروسيا، إلا أن بايدن استبق قمة مجموعة السبع التي ستسبق لقاءه مع بوتين، بتنازلات قدمها للحلفاء الأوروبيين، ومن شأن هذه التنازلات أن تمكّن واشنطن من المضي قدماً في برنامجها الشامل الذي يتضمن هدفاً محورياً، غير عسكري، وهو أن تبقى أمريكا «الدولة الأكثر إبداعاً» على حد تعبير بايدن.
أول هذه التنازلات جاء في ملف مشروع «نورد ستريم 2» لإيصال الغاز من روسيا إلى ألمانيا. فقد وصف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الاثنين، المشروع بأنه أصبح «أمراً واقعاً»، وقال إن الولايات المتحدة تعمل الآن مع ألمانيا لتخفيف الضرر الناجم عن المشروع على نظام الطاقة في أوروبا.
ومن المنتظر أن ينقل الخط الجديد مستقبلاً 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى ألمانيا، وستبدأ الأعمال التجريبية في المشروع على الجانب الروسي في منطقة ليننغراد في الأسبوع المقبل.
أما الملف الثاني الذي تحوم توقعات حول تغاضي واشنطن عنه هو اتفاقية الاستثمارات بين الاتحاد الأوروبي والصين. ولم تقدم الولايات المتحدة مؤشرات علنية حول هذا التوجه الذي عارضته طويلاً خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، إلا أن المسؤولين الأوروبيين ما زالوا يدافعون عن جهود توقيع الاتفاقية. وقال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال الذي سيجتمع مع بايدن في قمة السبع إن جهود بايدن لتحسين العلاقات يؤذن بالعودة إلى «شراكة قوية»، غير أنه دافع عن جهود بروكسل والتي تواجه صعوبات، في التفاوض على «اتفاقية شاملة حول الاستثمارات» مع بكين، تأخر إبرامها بسبب خلافات حول عقوبات متعلقة بحقوق الإنسان. وشدد على أن أوروبا ليست ساذجة في التعامل مع الصين وبأنها تريد العمل مع واشنطن ضمن «تحالف للديمقراطيات الليبرالية».
معركة «الأكثر إبداعاً»
بضمانة وجود أوروبا إلى جانبه في الصراع على زعامة القرن الـ21، أحرز بايدن نقاطاً مهمة على الصعيد الداخلي، حيث أقرّ مجلس الشيوخ الأمريكي، أمس الثلاثاء، مشروع قانون يقضي بتخصيص استثمارات كبيرة في العلوم والتكنولوجيا، واعتُبِر نصاً «تاريخياً» للتصدّي اقتصادياً للصين. وترصد هذه الخطة أكثر من 170 مليار دولار لأغراض البحث والتطوير، وترمي خصوصاً إلى تشجيع الشركات على أن تنتج على الأراضي الأمريكية أشباه موصلات تتركّز صناعتها حالياً في آسيا.
ورحب بايدن بتبني النص في مجلس الشيوخ، مؤكداً أن الولايات المتحدة «تخوض منافسة لكسب القرن الحادي والعشرين». وأضاف بايدن «مع مواصلة البلدان الأخرى الاستثمار في أنشطة البحث والتطوير الخاصة بها، لا يمكننا أن نتخلف عن الركب»، مؤكداً ضرورة أن «تحافظ أميركا على مكانتها باعتبارها الدولة الأكثر إبداعا وإنتاجية في العالم».
ولم تغب العبارات الدالة على القوة العظمى عن تصريحات وزير التجارة الأمريكي جينا ريموندو في تعليقه مشروع القانون الذي يهدف إلى «القيام بالاستثمارات التي نحتاجها لاستمرارية الإرث الأميركي كرائد عالمي في الابتكار». قبيل التصويت، كان لافتاً تحذير زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر من أنّه «إذا لم نفعل شيئاً، فقد تنتهي أيامنا كقوة عظمى مهيمنة». وتابع «من سيفوز في السباق على تقنيات المستقبل سيكون القائد الاقتصادي العالمي»، واستخدم تعبيراً مفعماً بالروح الثقافية المهيمنة بقوله إن هذه الأمة «ستصنع العالم على صورتها».
ومنذ أشهر عديدة يؤثّر النقص العالمي في أشباه الموصلات، المكوّنات التي تصنّع بشكل أساسي في آسيا، على عدد كبير من الصناعات التي تعتمد عليها، ولا سيّما صناعة السيارات ومعدّات الاتّصالات من هواتف ذكية وأجهزة كومبيوتر وألعاب إلكترونية.
جنون العظمة!
أمام هذه التحضيرات الأمريكية، داخلياً وخارجياً، لما يمكن تسميته بـ«الحرب الشاملة غير العسكرية»، اتهمت بكين واشنطن بالمبالغة في ما تسميه «التهديد الصيني» بعد تبني مجلس الشيوخ مقترح دعم الابتكار. وقالت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الصيني إن هذا «القانون يكشف جنون العظمة» لدى الولايات المتحدة، وقال مسؤول في وزارة الخارجية الصينية لوكالة بلومبرغ إن أمريكا تخلق «عدواً خيالياً» بتبنيها قانونا للمنافسة.
وبدأت تحركات بايدن في السياسة الخارجية تشجع أطرافاً حليفة لواشنطن على التحرك والاشتباك اللفظي مع بكين. ورفضت وزارة الخارجية الصينية اليوم الأربعاء بشدة سعي اليابان وأستراليا لتضخيم «التهديد الصيني» وتشويه الصين بشكل خبيث، وذلك في رد على بيان أصدره البلدان في وقت سابق اليوم وعبرتا عن «القلق البالغ» تجاه ما يتردد عن انتهاكات لحقوق الإنسان في منطقة شينجيانغ، وعن التحركات الأخيرة التي قالا إنها تقوض المؤسسات الديمقراطية في هونغ كونغ.
التحالف الليبرالي
بينما يعيد بايدن تجميع «تحالف الدول الليبرالية» بعد أربع سنوات من التفكك في حقبة ترامب، تحاول المؤسسات الممثلة لهذا التحالف، على غرار حلف شمال الأطلسي (ناتو) عرقلة التقارب بين دول التحالف المضاد والذي يضم، بصورة أولية، روسيا والصين، ومن المحتمل أن تجتذب دولاً أخرى على خصومة تاريخية مع الولايات المتحدة. وكان لافتاً أن كلا المحورين المتنافسين يطرحان عالماً متعدد الأقطاب، ويدافعان عنه في مواجهة الطرف الآخر. فبينما تعتبر الصين وروسيا التحركات الأمريكية سعياً لإبقاء القطب الواحد ورفضاً للتعددية في مراكز القوى، اعتبر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي الثلاثاء أن التقارب السياسي والعسكري بين روسيا والصين يطرح «مخاطر جديدة» أمام الناتو ويهدد تعددية الأقطاب! ولا تناقض فعلي بين التصريحين رغم ما يوحيه الظاهر عكس ذلك. فالصين وروسيا تريدان عالماً متعدد الأقطاب من زاويتيهما، والولايات المتحدة وحلفاءها أيضاً تريد الحفاظ على الوضع الحالي الذي تعتبره متعدد الأقطاب، لكن، بغض النظر عن الزاوية التحيزية لكل طرف حول مفهوم التعددية، فإن كلا المحورين لا يريدان تفوقاً حاسماً للخصم. أي هو رفض لعالم القطب الواحد الذي تتخيله واشنطن أن بكين تسعى إليه، والذي تعتقد بكين أن واشنطن تعيش هذه الأحادية بنفسها.
في المحصلة، تجري كل هذه التطورات في سياق أمريكي جديد، وهذا هو الجديد في كل ملف التنافس الدولي. قد تكون عبارة استخدمها رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل لوصف مجمل التطورات في ظل رئاسة بايدن تلخص الواقع الحالي بعد أربع سنوات من الفراغ الاستراتيجي. وقال ميشيل في تصريح احتفائي: «لقد عادت أمريكا».
المصدر: البيان