كاتب سعودي
صحيح أن موقع المملكة وهويتها العربية الإسلامية يحتمان عليها التعامل مع دول الجوار ومع عدد من دول العالم العربي والإسلامي بطريقة معينة، تغلب عليها أحياناً المجاملة، انطلاقاً من كونها تحتضن قبلة المسلمين.
غير أن هناك موقعاً آخر تتمتع به المملكة، كونها المصدَر الأكبر في العالم للطاقة. ليس ذلك فقط، بل وكونها لعقود عدة تتمتع بسياسة نفطية متزنة، تحفظ الاستقرار والثقة للمستهلكين في شتى أقطار المعمورة. يا لها من مهمة صعبة، خصوصاً عندما نضع ذلك في جغرافيا موقع المملكة، وقربها من الصراعات السياسية التي تعيشها منطقتنا لعقود طويلة.
لعل هذه السياسة النفطية البارعة، إضافة إلى ثقة العالم باستقرار المملكة داخلياً – بفضل الله – كانتا الركيزتين الأُوليين في ضمّ المملكة إلى قائمة الـ20 عالمياً، ومنحها مقعداً في هذه المنظومة المهمة.
عندما نقتنع بهذه المكانة وأهميتها، فإنه يتحتم علينا حقيقة العمل وبشكل أكبر وأكثر تركيزاً وتفصيلاً من خلال هذا المكان، وأقصد بذلك تقوية هذه العلاقات مع تلك الدول، وتفادي الدخول في صراعات «الديكة» التي تحيط بنا.
نعم نهتم بما يدور حولنا، ونسعى إلى احتواء الأزمات للحد الذي لا يضر بنا، ولكن مرتبة ذلك لا يجب أن تكون الأولى في سلم أولوياتنا، طالما أن ذلك لن يشكل لنا من الناحية الأمنية خطراً. ولو أن هذه الكيانات التي تشعل الفتن يميناً ويساراً هي من يشتري نفطنا، بمعنى أن استقرارها سيعود علينا بالفائدة اقتصادياً، فلربما اختلف هذا الطرح تماماً. المشكلة أن هؤلاء ليسوا أكثر من مجرد أعباء وصداع وألم. ليس ذلك فقط، بل إن معظم هذه الكيانات لا تحمل ذاكرة طويلة، وقد تعلمنا من التجارب أن من تدعمه اليوم وتقف مع قضيته وتسعى إلى جره نحو الاستقرار ربما ينقلب عليك غداً.
تأملت هذه المكانة المهمة للمملكة بصورة جلية في الصين خلال تحركات ولي العهد ومحادثاته مع القادة الصينيين، وأيضاً متابعة الوزراء السعوديين المرافقين له، والذين يتفاوضون مع نظرائهم الصينيين. اتفاقات كبيرة ومحادثات شاقة، وجهود مضنية، تبذل للوصول إلى ما يخدم مصالح بلادنا.
قبل هذه الزيارة كانت هناك زيارات مماثلة لليابان والهند والباكستان. في العام الماضي كان كبار المسؤولين السعوديين يقومون بجولات في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا للغرض نفسه. هذا هو الدور الأهم الذي يجب أن نركز عليه، ونضعه في قائمة اهتماماتنا، ونحتاج إلى المزيد منه.
من ناحية أخرى، العالم المتقدم – كما أشرت – يعوِّل الكثير من الاهتمام على استقرار المملكة، ذلك أن عدم الاستقرار – لا قدّر الله – يؤثر في السياسات سواء الخارجية منها أم الداخلية، ويبعث على القلق في كل الأحوال.
حتى نقوي مفهوم الاستقرار في بلادنا، وإضافة إلى كل ما تم تحقيقه من إنجازات كبيرة، بدءاً من توحيد المملكة وصدور النظام الأساسي للحكم، ومروراً بتأسيس هيئة البيعة، وما تخلل ذلك من مبادرات أخرى كبيرة وتاريخية أمنية وقضائية وعمالية، وإنفاق هائل على البنى التحتية، فإنه يتحتم علينا اليوم ونحن الدولة الأكبر في المنطقة الخليجية سواء من حيث عدد السكان أو الجغرافيا أو الموارد، تبني سياسات أكثر وضوحاً نحو التنمية البشرية والاقتصادية بتفرعاتها كافة.
علينا العمل بكل ما نملك على خلق المناخ الاستثماري المشجع على جلب الأموال وخلق فرص العمل الجديدة بما يكفي لحاجة طالبي العمل الجدد خلال الأعوام القليلة المقبلة. الدولة لن تتمكن من الوفاء بتلبية الحاجة لفرص العمل المستقبلية، لأنها ببساطة مترهلة بعدد الموظفين بما يكفي. عالمياً، الاقتصاد الذي يقوده في الغالب القطاع الخاص وتقننه وترعاه الدول، أصبح اليوم شرعية مهمة لأي حكومة، ولا يمكن لأي كيان تجاهل ذلك. نعم شرعيتنا الأولى في المملكة دينية إسلامية وهذا لا خلاف عليه، لكنها أيضاً اقتصادية وتنموية.
جميعنا بات يدرك اليوم أن عدد طالبي العمل يفوق كثيراً عدد فرص العمل الجديدة، وهذا يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع نسب البطالة. الاستقرار الداخلي مرهون بشكل كبير في إدراج المواطنين في سوق العمل، وتملّك البيت، وتكوين الأسرة والانطلاق نحو الإبداع. خلاف ذلك هو القلق والحيرة والتخبط، والبحث عن المهدئات الذي ربما يؤدي ببعض المواطنين إلى الشعور بأن لا شيء أمامه يستحق المحافظة عليه، هذه منطقة سيئة لا يجب أن نصل إليها.
من هنا علينا التخطيط لبناء هذا الاقتصاد المتطور القادر على الصمود في ظل تنامي عدد السكان والفئات العمرية المصاحبة لهذا العدد. وزارة الاقتصاد والتخطيط المنوط بها مثل هذه المهمات، وبالتعاون مع وزارات الداخلية والتعليم والعمل والعدل، والغرف التجارية وغيرها، لا يجب أن تتناسى هذه المهمة ولو للحظة.
الحاجة إلى دراسة الوعاء الوظيفي الحالي في المملكة تعتبر أولوية مهمة لمعرفة عدد الفرص المتوافرة اليوم في اقتصاد المملكة ونوعها ومستواها، وقدرتها على البقاء والنمو بصرف النظر هل من يؤديها اليوم سعودي أم أجنبي.
وجود الوظيفة من حيث المبدأ مهم جداً قبل أن نفكر في سعودتها، ذلك أن الوظيفة تعني وجود مستثمر، وفرصاً وظيفية، وغيابها يعني العكس تماماً. يلي ذلك درس أسباب ضيق هذا الوعاء الوظيفي حالياً وتدني جودة الوظائف، وهو بالفعل صغير، ومعظم وظائفه خدمية متدنية في جودتها ولا تناسب حجم البلاد. تدني الخدمات لا يخلق فرص العمل والعكس صحيح، فالجودة العالية تتطلب كثافة بشرية مدربة لرعايتها والمحافظة عليها.
عندما ننطلق من هذه الأرضيات، ونقرّ بأن قطاع الخدمات هو الممول الأضخم للوظائف في كل دول العالم، مهما بلغت الصناعة والزراعة من تقدم، فسنكتشف حقيقة كم نحن مخطئون عندما تجاهلنا هذه الحقائق لأعوام عدة!
على المسؤولين الذين أشرت إليهم، وبالتعاون مع كبرى الدور الاستشارية المتخصصة في هذه المجالات، البحث وبدقة ووضوح وسرعة عن أسباب عزوف أصحاب رؤوس الأموال السعوديين عن ضخ استثماراتهم في أنشطة جديدة في البلاد. عليهم أيضاً البحث عن سبب خروج الأموال السعودية من المملكة سواء عبر إنفاق السياح السعوديين، أم بسبب تحويلات الأجانب، بدلاً من تدويرها داخلياً، وهذه الأرقام تنمو سنوياً بمعدلات مزعجة. أين الخلل هنا؟ لماذا لا ننفق مدخراتنا في بلادنا؟ نعم.. على مستوى خزينة الدولة لدينا اليوم فوائض مالية كبيرة بسبب ارتفاع أسعار النفط، غير أن ذلك لا يشكل ضماناً للمستقبل أبداً.
تنوع مصادر الدخل واستمرارها، وتهيئة البيئة الصالحة للاستثمار يفترض أن يحظى بالأولوية في خططنا التنموية. درس الدعم الحكومي الباهظ في تكاليفه للطاقة وبعض السلع يجب أن يوضع تحت المجهر مجدداً لتقويم جدواه الاقتصادية،
علينا استغلال مناطق المملكة، وتنشيط فروع السياحة، وجلب الزوار الأغنياء، وإغرائهم بإنفاق أموالهم. هذا هدف مهم وملح لتحسين الميزان النقدي بين ما يدخل وما يخرج من أموال.
تنوع الأنشطة الداخلية الذي لا غنى لأي اقتصاد حديث عنه مثل التشجيع على المراكز البحثية العلمية، وبناء اقتصاد المعرفة، وتطوير مفهوم الترفيه والترويج للمناسبات الرياضية الكبرى، والتشجيع على أنشطة الفنون والمسرح والإنتاج السينمائي الهادف، وتطوير الأسواق الحرة في مطاراتنا الدولية، وخلق الإبداع والتنافس في كل شيء والتحفيز له، سيخلق وظائف جديدة، والأهم من ذلك سيخرج جيلاً بمستويات راقية من الوعي والمسؤولية.
التفكير بشكل عام في مبدأ إعادة هيكلة الاقتصاد من اقتصاد ريعي خامل بلا مسؤولية فردية، إلى اقتصاد منتج ومقنن ومبدع ومنافس بقيمة إضافية مميزة، هو الآخر أولوية مهمة لبناء الإنسان المنتج، ولم يعد يحتمل التأجيل.
أيضاً وإضافة إلى الجهود المبذولة اليوم لمكافحة الفساد، لا بد من تأسيس قواعد قوية للسلم الاجتماعي، وترسيخ مبدأ المواطنة، وتجريم ومعاقبة من يخون البعض من مواطني هذه البلاد لأسباب مذهبية أو عرقية.
حتى نستمر دولة عالمية ومحورية من الناحية الاقتصادية، وراسخة داخلياً أمام كل ما قد يحاك ضدها، لا بد من البدء بمباشرة مثل هذه الاقتراحات وغيرها الكثير.
هذه هي الأولويات الأهم في مسيرتنا، ولا يجب أن نسمح لأحد بتعطيل هذا التوجه مهما علت أبواقه بالضجيج. نعم فوتنا الكثير من الفرص التي كان الأخذ بها في وقت باكر كفيلاً برفع الدخل الوطني، ومضاعفة الناتج المحلي، ووضع البطالة في قصص الماضي. لكن أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً، ولنتذكر أن المزيد من التأخير والتباطوء نحو هذا التوجه سيقلل من نسبة نجاحنا في تبنيه مستقبلاً، وستخرج أمامنا عراقيل جديدة ومعقدة، فضلاً عن ارتفاع كلفة هذا التحول من النواحي المادية والاجتماعية والأمنية.
المصدر: الحياة