القطة الصغيرة التي ظهرت فجأة أمام عدسة الكاميرا كانت تتثاءب. لعلها استيقظت للتو. لكنها، بالتأكيد خاسرة، فكل السمك بات مفروداً على سطوح خشبية نظيفة، ولن يكون لها حظ التقاط واحدة تنزلق عن عربة التحميل من دون أن ينتبه ناقلها. الساعة الخامسة والنصف صباحاً بتوقيت مدينة دبي: ثمة طائرة “إيرباص” في السماء عليها علامة “طيران الإمارات”، وثمة حمام يطير فوق الأسطح التي لم تبرح مكانها ولا “سكيكها” منذ أكثر من 80 سنة.
المحال لم تفتح أبوابها بعد، لكن خلال ساعات قليلة، سوف يصبح هذا المكان في منطقة “ديرة” في قلب دبي التاريخي، مسرحاً لكل أنواع العروضات الصاخبة: باعة ومتجولون ورائحة بهارات فواحة ورطوبة خفيفة تحمل نكهة ملح البحر المقيم في الخور وصوت محركات سيارات وعجلات عربات الحمالين تئز قرب الأرصفة، حتى إن القطة قد تموء كثيراً قبل أن ينبته أحد إلى صوتها، وسط هذا الصخب.
قبل الملح والبهار
“سوق السمك” يستيقظ قبل ذك كله. السمك قبل البهار والحمام والملح. عشاقه يسعون إليه باكراً، طازجاً وغنياً بفائدة البحر وخيره. لا يمكن التأخر في “حصد” محصول السمك، عن موعد شروق الشمس. السمك هو شمس البحر وأقماره”، يقول العجوز الذي يجلس على “دكته” الخشبية، كما اعتاد أن يفعل طوال الخمسين سنة. يبدو في مزاج رائق هذا الصباح وابتسامته ندية مثل عباءته البيضاء التي تضفي على شيخوخته طمأنينة وسلاماً.
الحاج عبيد من الإمارات، يعرفه الصيادون وعمال سوق السمك جيداً، وهو من الملاك في هذا المكان، الذي يصرف فيه وقتاً أكثر من أي مكان آخر في حياته. نمازحه أمام الكاميرا، ونسأله عمن يتحكم في قرار كيفية طهو السمك في بيته، هل هو بوصفه الخبير أو زوجته بوصفها سيدة البيت وملكة مطبخه؟:” طبعاً الموضوع عند المدام”، يجيب من دون تردد.
من الصين إلى بنغلادش
تتسحب القطة من أسفل المقعد الخشبي، تنظر حولها بحذر، ثم تطلق أقدامها للركض، وكأنها شعرت بتهديد ما، أو أعلنت أن جولة البحث عن رزقها قد حانت ولا تراجع عنها. لكنها تضطر، وهي تلج إلى المساحة الهائلة المسقوفة من السوق، إلى أن تبطئ حركتها، لأن المكان يعج بأقدام تحث خطاها بسرعة. سيدة صينية تنتبه إلى التصوير وتلتفت مبتسمة مع عبارة “صباح الخير”. لا تبدو راغبة في تضييع أي دقيقة، تؤخرها عن مهمتها.
إنها مديرة فرع لسلسلة مطاعم شهيرة في دبي تقدم الطعام البحري من أسماك وثمار بحر. يبتسم في وجهها عامل باكستاني قبل أن يزن لها ثلاثة كيلوغرامات من سمك ذي جلد مرقط. في هذا الوقت، يحمل رجل آخر هاتفه في وضعية التصوير ويتلقط صورة لوجه العامل المبتهج. ثم يقترب منه ويقول: “سأضعها على حسابي على الفيبسوك، وبوسع عائلتك أن تراك من باكستان الآن”. تبتسم الصينية، تنهي مهمتها، وتغادر، مستوقفة عامل آخر، أكبر سناً، أن يتيح لها المرور، بعدما سد الطريق بعربته. هذا من بنغلادش ويعمل في دبي منذ أكثر من أربعين عاماً. “محمد علي، محمد حسن، محمد طه..” يعدد أسماء أبنائه، بالتلقائية ذاتها التي يردد فيها أسماء السمك.
مباركة السماء
تشرق الشمس على سوق السمك في الديرة، لا لكي تعلن بدء دوران عجلة العمل والنشاط، فهذه تبدأ قبل الشروق، ولكن لكي ترمي أشعتها الذهبية على كل شيء، فتبدو كأنها تبارك الإنسان على غذائه والسمك على انتهاء رحلته وتحوله إلى طاقة للبشر المكرمين وعلى ابتسامة العمال والزائرين الذين يتحدثون بكل اللغات ويتلونون بكل الألوان: “مثل السمك نحن من كل صنف ولون، من كل بلد وثقافةـ نسبح في بحر دبي، هذه المدينة التي تسمو بالتناغم والتعايش والتسامح”.
قد يبدو هذا التصريح لأول وهلة عصياً على أن يصدر عن عامل هندي في سوق سمك، لكن، حين يأتي الأمر عند وصف دبي، فلا فارق بين صياد وبائع وبين مشتر وعامل، فالكل بوصفها فقيه، وفي بحرها يغوص!
من كل نوع
“أنا راتين من الفلبين، وأتردد على هذا المكان منذ أكثر من 20 سنة، كل صباح، مع شروق الشمس”. هذا يعني أن راتين أمضى على الأقل أكثر من خمسة آلاف شروقاً للشمس في هذا المكان: “أقوم بهذا الروتين بشكل دائم، كان عمري عشرين سنة حين عملت لأول مرة في مطعم أسماك في شارع الرقة، واليوم عمري أربعون وقد أصبحت صاحب المطعم. لكنني، لم أغير عاداتي. أحب ذلك الإحساس أن أتوجه إلى السوق، فيما ضباب الليل ورماديته تنبلج، لكي يلمع ذهب الشمس”.
“الأسماك هنا من كل مكان، وليس فقط السمك المحلي، بل هناك الذي يأتي من سيلان وفيتنام والهند. في هذا السوق جنسيات من الأسماك بقدر ما هناك جنسيات من البشر”، يقول حمد الذي يدير صفحة على الفيسبوك تعرض أخبار السوق، وأصناف سمكه وحكايات أهله.
سمكة ديزني
تتصاعد من زاوية أصوات صياح وضحك، الهدف منها جذب انتباه الكاميرا. عمال يمازحون بعضهم البعض. يقلدون وقفات ووضعيات النجوم وعارضي الأزياء في جلسات التصوير الشهيرة. وان، هذه المرة ليس هناك ورود أو حقائب فاخرة في أيديهم بل.. سمك. يعلق أحدهم يده على فوق الجدار المغطى ببورسلين أبيض نظيف بدرجة كبيرة فلا تخال أنك في سوق سمك بل حوض سباحة، بينما يترك الأخرى مرتخية، وينظر إلى الكاميرا في وضعية مائلة مع ابتسامة عريضة. يلتقط آخر سمكة تشبه “الخفاش العملاق” ويحركها كأنه طفل يلهو بطائرة من ورق، بينما يدحرج آخر سمكة صغيرة، منمنة كأنها “سمكة كرتون” من أفلام “ديزني” ويجعلها تتزحلق على “صلعته العارية”.
بعيداً، في قسم البحريات والأسماك المجففة والمملحة، تدور المراوح بوتيرة هادئة ومستمرة فوق رفوف وضعت فوقها آلاف الأسماك الجاهزة للأكل لمحبي هذا النوع. وحدها القطة لا تقترب من هذا المكان، إذ إن طعم الملح ربما لا يروق لها. تتثاءب مرة جديدة وتعدو بعيداً. ستعود غداً صباحاً، عند الخامسة والنصف، تحلم بوجبة مبكرة، في سوق مبكر لمدينة تحتضن كل العروضات والألوان والبسمات بفرح وتسامح.. مدينة كأنها بحر يعوم فيه الجميع بفرح، على السطح وفي العمق.. بحر دبي!
المصدر: البيان