كاتب صحفي
خاص لـ هات بوست:
تتداخل الحسابات السياسية مع دخان المعارك في المشهد السوداني لتزيده تعقيدا فوق ما هو معقد، وتتطاير الاتهامات في كل الاتجاهات، وفي خضمّ هذه الفوضى، يصبح من السهل أن تشوه الحقائق وأن تُزَجّ بأسماء دول ليست طرفاً في هذا الصراع الأهلي وداخل معركة جذورها أعمق من حدود الجغرافيا، وأقدم من أي وساطة إقليمية ومن اي ثأر اهلي او قبلي. فالسودان اليوم يعيش حرباً داخلية بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان والإخوان من طرف وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من طرف آخر في صراع (سوداني ـ سوداني) وكل ما عدا ذلك مجرد تفاصيل.
ورغم الاتهامات التي توجه للإمارات بين فترة وأخرى، إلا أن مراجعة بسيطة للسلوك السياسي لدولة الإمارات تكشف أنها تتعامل مع الملف السوداني بوصفه ملفاً إنسانياً وسياسياً يحتاج إلى تهدئة لا تأجيج، ويتطلب مسار تفاوض لا مسار عناد، فالإمارات جزء من الرباعية الدولية، إلى جانب السعودية، الولايات المتحدة، ومصر، وهي مجموعة تشكلت من اجل الوساطة لانهاء الحرب لا للمشاركة في القتال، وهذه الحقيقة كثيراً ما يحاول البعض ان يخفيها خلف خطابات الغضب وأجواء الحرب والمصالح الايدولوجية.
والواقع ان قراءة المشهد المعقد في السودان اليوم لا يمكن ان يتم دون النظر إلى الشروط الاخيرة للطرفين ، والتي أصبحت بحدّ ذاتها سيناريوهات مفتوحة لمستقبل السودان.
فالجيش السوداني يضع شرطاً أساسياً لأي تسوية هو “تفكيك قوات الدعم السريع ونزع سلاحها قبل أي حديث عن وقف إطلاق نار” ، ومن الواضح ان مثل هذا الشرط يجعل الحرب خياراً باقيا ووقف إطلاق النار حلما بعيدا، فهو يطالب الطرف الآخر بالتنازل الكامل قبل الجلوس إلى طاولة الحوار! وفي ظل سيطرة الدعم السريع على مناطق واسعة، فإن تنفيذ هذا الشرط قبل التفاوض يبدو غير واقعي، ما يعني أن هذا السيناريو يقود إلى استمرار المواجهات وتدهور الوضع الإنساني وتوسع الانهيار الاقتصادي وتدويل أكبر للأزمة عبر مسارات المحاكم والتحقيقات الدولية.
وفي هذا السياق، تصبح أي وساطة بما فيها وساطة الولايات المتحدة الاميركية او الإمارات وغيرها عرضة للتشكيك أو الرفض، لا لخلل فيها، بل لتمسّك طرف رئيسي بمسار عسكري يرى فيه الحل الوحيد.
على الجانب المقابل، يدفع الدعم السريع وحلفاؤه المدنيون نحو “وقف إطلاق نار فوري، يليه ترتيب أمني مشترك ودمج تدريجي للقوات داخل جيش مهني”. هذا المسار يتطلب تنازلاً من الجيش عن شرط التفكيك الكامل ويتطلب إشرافاً دولياً لضمان الدمج وكذلك حكومة انتقالية مدنية تشرف على المرحلة.
هذا السيناريو -رغم صعوبته- إلا انه الأقرب إلى منطق الوساطات الدولية، لأنه يبدأ بوقف الحرب قبل الدخول في تفاصيل إعادة الهيكلة وهو المسار الذي تدعمه غالبية القوى الإقليمية، بما فيها الإمارات، وخصوصا ان الكارثة الإنسانية في السودان باتت أكبر من قدرة أي دولة على تجاهلها وبالتالي اي خطوة تساعد على إنقاذ ارواح الأبرياء تكون محل اهتمام اي وسيط.
السؤال الذي يطرح في هذه الحالة هو بين هذين السيناريوهين، أين تقف دولة الإمارات؟ هنا تحديداً يمكن فهم المشهد بعيداً عن الخطاب الانفعالي والاستهداف الأيدولوجي فالإمارات ليست في موقع البحث عن انتصار عسكري لطرف على آخر وهي اكدت على ذلك في اكثر من مناسبة بل وفي كل مناسبة “لا حل عسكري للصراع في السودان” ، لانها ببساطة وبكل وضوح في موقع البحث عن توازن يوقف الانهيار ويعيد السودانيين إلى كلمة سواء هذا الدور قد لا يُرضي “بعض” الأطراف، وقد يتم تفسيره أحياناً على أنه انحياز، لكن الحقيقة التي سيكتشفها الجميع هي أن الوسيط الذي يُرفض اليوم سيكون ذاته الذي سيحتاجه الجميع غداً عندما تتعب البنادق.
والحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هي ان السلام في السودان لن يأتي من توزيع الاتهامات او من ترويج الأكاذيب او المتاجرة بالأزمة الانسانية، بل من وضع مصلحة السودان اولا ومن احترام كرامة وسلامة الإنسان السوداني، ومن القدرة على تجاوز شرط “كل شيء أو لا شيء” والإمارات، كغيرها من الأطراف المسؤولة، تدرك أن دورها ليس صناعة القرار السوداني، بل مساعدة السودانيين على ألا يضيع قرارهم في زحام الحرب وفي ضجيج أصوات البنادق والرصاص.
