كاتب و محلل سياسي سعودي
هذه المقالة امتداد لما كتبته من قبل عن حاجة السعودية إلى عملية إصلاح واسعة، وتجديد لمرتكزاتها ومؤسساتها الفكرية والسياسية، وذلك انطلاقاً من أن تغيّر الزمن يؤدي بالضرورة إلى تغيّر المجتمعات، وتغيّر المجتمعات يفرض على الدول أن تتأقلم مع هذا التغيّر، وأن تستجيب له. وإذا لم تفعل، فإن ذلك سيتسبب في وجود هوة كبيرة بين المجتمع في شكل عام من ناحية، والمجتمع السياسي أو الدولة من ناحية أخرى. وفي ما يتعلق بموضوع مقالة اليوم، وامتداداً للمبدأ ذاته، فإن تغير الإقليم الذي تنتمي إليه الدولة يفرض عليها أن تستجيب، وأن تراجع سياستها الخارجية وتحالفاتها، والمرتكزات التي تنطلق منها في كل ذلك. ولعله من الواضح أن الأحداث الكبيرة التي تعصف بالعالم العربي منذ عامين، هي الآن تعبير عميق ومباشر عن حجم التغير الذي ينتظر المنطقة من تغير في الدول وثقافاتها السياسية وقيمها ومصالحها وتحالفاتها الإقليمية والدولية. يبدو أن حجم هذا التغير سيكون كبيراً، لأن منبعه اجتماعي ـ شعبي، يستهدف مؤسسة الحكم وطبيعة الدولة، ويمتد من مشرق العالم العربي إلى مغربه. هذا العالم الذي عرفناه في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، يتلاشى أمام أعيننا، والأخطر في الموضوع، أنه لا أحد يعرف متى، ولا كيف، ولا إلى ماذا سينتهي إليه في نهاية المطاف! الأمر الواضح والمؤكد أن العالم العربي لن يعود كما كان عليه.
حقبة حكم الأسد في سورية – مثلاً – تتلاشى، وهذا واضح، لكن ما هي سورية التي ستخرج من تحت أنقاض الدماء والدمار، وتشويه النسيج الاجتماعي الذي تسبب به هذا الحكم على مدى أكثر من 40 عاماً؟ في مصر تصدعت الجمهورية الأولى أو جمهورية يوليو، لكن ولادة الجمهورية الثانية تعاني الأمرين بفعل صراع مجاني ومدمر بين مكونات طبقة سياسية رثة يشكل «الإخوان» والمعارضة قطبيها الرئيسيين، ولك أن تقول الشيء نفسه، أو أكثر عن حالات اليمن وليبيا وتونس، ثم هناك العراق الذي تمتد معاناته منذ أكثر من عشرة أعوام، لم يكن الاحتلال الأميركي إلا أحد نقاط الذروة فيها. خرج الاحتلال، وفي أعقابه ظهرت طائفية الحكم معززة بنفوذ إيراني واضح. هناك الآن انتفاضة جديدة في غرب البلاد تطالب بتصحيح الأوضاع، فإلى ماذا سيقود كل ذلك؟ ما الذي سيحدث للمعادلة السياسية في الأردن والمغرب؟ إلى ماذا ستنتهي الحال في البحرين؟ أسئلة لا تنتهي، لكنها أسئلة مشروعة وملحّة تفرض نفسها على الجميع، وبالتالي تفرض ضرورة التعامل معها بجرأة وشفافية وواقعية أيضاً.
وسط هذه الصورة المضطربة تقع السعودية في قلب العاصفة منها، فهي دولة كبيرة وغنية ومستقرة سياسياً، لكنها محاطة بكل نقاط العواصف والتغيير من جميع جهاتها، وأكثر ما يلفت النظر في هذه الصورة أن حجم التأثير السعودي في مجرى الأحداث العاصفة يبدو أقل كثيراً من حجم هذه الدولة وحجم قدراتها، وما تتمتع به من استقرار وشبكة علاقات إقليمية ودولية واسعة. يبدو الحضور السعودي في العراق – مثلاً – ضعيفاً. استثمرت السعودية في هذا البلد العربي المجاور كثيراً منذ العام 1973، بخاصة طوال حقبة الرئيس الراحل صدام حسين، وانتهى هذا الاستثمار بغزو الكويت، والتداعيات التي انتهى إليها حتى هذه اللحظة، ومن ضمن ما انتهى إليه ذلك ما يشبه الخروج السعودي منه، ودخول إيران إليه من أول يوم للاحتلال الأميركي، وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل في العام 2005، في مجلس الشؤون الخارجية في نيويورك، وحينها استنكر الفيصل، وعن حق، أن الولايات المتحدة سلّمت العراق على طبق من فضة لإيران. هذا صحيح. لكن هل كان للغياب السعودي دور في ذلك؟ لماذا لم تأخذ الولايات المتحدة مصالح السعودية ودول الخليج العربي والأردن ومصر في الاعتبار عندما كانت تحتل العراق، وتدير شؤونه الداخلية؟ كل هذه الدول حليفة لواشنطن. لماذا سلّمت إدارة بوش الابن الحكم لحلفاء إيران؟ ثم كيف ولماذا يتعايش النفوذان الأميركي والإيراني في بلاد الرافدين منذ العام 2003؟ لماذا لم تقدر واشنطن حجم العلاقات الاجتماعية والتاريخية بين العراق والسعودية، وتأثير ذلك في مصالحهما، بخاصة أن الحدود بينهما تمتد لـ900 كيلومتر؟ هنا، وفي هذه الحال تحديداً، يبدو جلياً أن مردود التحالف بين الرياض وواشنطن كان أقل بكثير بالنسبة الى الأولى من الحجم الاقتصادي والسياسي لهذا التحالف بين الطرفين. لماذا حصل ذلك وكيف؟ ما علاقة هذه النتيجة بطبيعة السياسة الخارجية السعودية، وما تبدو عليه من محافظة، وميل لرد الفعل، بدلاً من المبادرة للفعل؟
عندما ننتقل إلى منطقة الشام نجد أن النتيجة لا تختلف كثيراً، فقد استثمرت السعودية في نظام الأسد الشيء الكثير سياسياً ومالياً على مدى أكثر من 30 عاماً، ومن الممكن القول إن الاستثمار في عهد الرئيس حافظ الأسد (الأب) كان مجدياً إلى حدّ ما لناحية تأمين شيء من التوازن في العلاقات العربية – العربية، والعربية – الإيرانية، وتشكيل محور عربي يتشكل من السعودية وسورية ومصر كان له دور كبير في حرب أكتوبر (رمضان) مع إسرائيل، وفي ضبط الوضع العربي، لكن تبيّن أن هذا المحور لم يؤسس لعلاقات سعودية – سورية صحيحة ومتينة، والدليل أنه لم يمنع دمشق من الانزلاق في شكل تدريجي نحو تقوية تحالفها مع طهران، وهو التحالف الذي وصل إلى ذروته في عهد بشار الأسد (الابن)، ومن الواضح الآن بأن العلاقات السعودية السورية بدأت انحدارها نحو الانفصال مع اغتيال رفيق الحريري العام 2005، وكل أصابع الاتهام في ذلك تتجه إلى النظام السوري و «حزب الله». حاولت السعودية التجاوز عن ذلك، وقبلت باتفاق الدوحة الذي أعطى «حزب الله» اللبناني، حليف إيران والنظام السوري، ما أصبح يعرف بالثلث المعطّل داخل أي حكومة لبنانية تتشكل بعد ذلك، ثم انتهى الأمر بأن أصبح هذا الحزب يهيمن على المشهد السياسي اللبناني، ويقرر شكل هذه الحكومة ورئاستها وسياساتها من خلال قوة السلاح الذي يحصل عليه من إيران عبر سورية، واللافت في ذلك أن قوة «حزب الله» تنامت في ظل التحالف السعودي – السوري. والغريب أنه في ظل اتفاق الطائف في العام 1989 تمّ نزع أسلحة كل الميليشيات اللبنانية باستثناء «حزب الله»، وهنا تكون السعودية، كجزء من استثمارها في نظام الأسد، قد أمنت غطاءً عربياً إلى جانب سورية لإمداد هذا الحزب بالسلاح الإيراني. طبعاً لا يعني هذا أن السعودية كانت موافقة على ما كان يحصل، لكنه حصل، وفي الأخير انهارت العلاقات السعودية – السورية مع قيام الثورة السورية في 2011، وانتهى أمر هذه العلاقة بأن وصف رئيس النظام السوري السعودية ودول الخليج العربي بأنها دول بدو لا تاريخ لها. والسؤال في هذه الحالة مرة أخرى: ما علاقة ذلك بالسياسة الخارجية السعودية وتوجهاتها؟ ألا يتطلب الأمر مراجعة جذرية لهذه السياسة ومرتكزاتها؟ للحديث بقية…
المصدر: صحيفة الحياة