كاتب لبناني
حرص مسعود بارزاني على استقبال جون كيري في أربيل بتصريح ناري بأن «العراق لن يعود إلى ما كان عليه»، لكن الأمر ليس مفاجئا، فتلك عملية يعمل عليها الأميركيون منذ نزولهم العراق واتخاذ بول بريمر أول قرار مدروس جدا، وهو حل الجيش العراقي تأسيسا للفوضى الأمنية.
ولم يكن أحد ليصدق أن هناك كثيرا من اللّعاب الإقليمي الذي يسيل في تل أبيب وأنقرة وطهران، أمام فرضية دفع العراق ليكون بوابة «تسونامي التقسيم» الذي يهدد المنطقة، لكن التطورات الدراماتيكية في الأسبوعين الماضيين كشفت أن انزلاق العراق إلى حافة التقسيم لم يكن سوى نتيجة حتمية لممارسات مدروسة ومخطط لها وراء أبواب مغلقة!
وهكذا تتوالى الفصول التي لا يمكن أن تصدق إلا إذا نظرنا إليها بصفتها سلسلة من الخطط المرسومة التي ستنتهي باقتسام الكعكة العراقية، بعدما جرى ترسيخ التقسيم السيكولوجي بين المكونات العراقية على خلفية سياسات الإقصاء والانتقام والتنكيل المذهبي التي تولاها رجل إيران، نوري المالكي، وهو ما أيقظ بركانا من الكراهيات والأحقاد المذهبية التي انفجرت دفعة واحدة، ما يدفعنا إلى طرح جملة من الأسئلة الضرورية:
أولا: هل كانت تصرفات المالكي الساذجة ضد المناطق والعشائر السنية بعيدة عن أعين الإيرانيين والأميركيين؟ بالتأكيد لا، إذن لماذا لم يجرِ تصويب ممارساته بما يساعد على قيام العراق الجديد، ولطهران كما لواشنطن تأثيرهما عليه؟
ثانيا: هل يمكن أن نصدق أن الجيش الذي قيل إن كثيره يلامس المليون وقد تكلف ما يزيد عن 120 مليارا من الدولارات، يمكن أن ينهار مثل قبضة من الرمال، فيهرب من المتاريس والثكنات ويسلّم أسلحته ومدرعاته وذخائره إلى حفنة من الإرهابيين التكفيريين «الداعشيين»، كما تعمدت بغداد وطهران وحتى واشنطن الإيحاء، في سياق محاولة مكشوفة للتعمية، إلى انتفاضة العشائر والمناطق السنية ضد عسف حكومة المالكي؟
ثالثا: هل يمكن التصديق أن «داعش» التي قاتلت وتقاتل المعارضة السورية إلى جانب النظام السوري يمكن أن تنخرط في القتال وارتكاب الجرائم ضد جيش المالكي، وهو الحليف للنظام السوري، وبإشراف إيراني واضح؟
رابعا: هل صحيح أن الجيش العراقي تلقى أوامر عليا بالانسحاب، وترك الأمور تتدحرج بهذه الطريقة الكارثية التي تشكل منطلقا طبيعيا لتفتيت العراق جغرافيًا، بعدما تولت حكومات المالكي تفتيته سياسيا ومذهبيا؟
خامسا: بعد كل ما جرى، هل صحيح أن هناك حرصا على عدم دفع العراق إلى التشظي؟ وكيف عجزت طهران وواشنطن عن إقناع المالكي وجماعته بالتنحي لتشكيل حكومة جديدة، وانتخاب رئيس للجمهورية ورئيس لمجلس النواب على ما حصل يوم الثلاثاء الماضي؟ وهل أن التمسك بالمالكي يفضي إلى الحل أو إلى الفوضى والتقسيم؟
لندع الأسئلة والأجوبة ونذهب إلى النتائج انطلاقا من الصورة التي تتضح بسرعة، رغم كل تصريحات التعمية التركية والإيرانية والأميركية التي تتناقض عمليا مع المصالح المضمرة للدول الثلاث من وراء التقسيم:
أولا: على المستوى الرسمي تقول أنقرة إنها ضد تقسيم العراق، وإنها تعارض قيام الدولة الكردية التي لم يعد ينقصها إلا الإعلان الرسمي من مسعود بارزاني، الذي قال إنه مستعد للقتال حتى آخر لحظة دفاعا عن كركوك، ولكن المتحدث باسم «حزب التنمية والعدالة» أبلغ «فايننشيال تايمز» قائلا: «استعدوا لقبول دولة كردية مستقلة في شمال العراق، فالتقسيم أمر حتمي والأكراد أشقاؤنا!».
ومن الواضح أن قيام الدولة الكردية سيخدم تركيا نفطيا عبر كركوك، وسيحل تدريجيا المشكلة الكردية المزمنة في سوريا والعراق، ويساعد أنقرة على زكزكة طهران في الإقليم، ويقيم حاجزا كرديا في وجه «داعش» وسط العراق!
ثانيا: جنوب العراق يكاد يكون مقاطعة إيرانية، فمنذ زمن بعيد، وقبل انسحاب الأميركيين كانت طهران قد استولت على آبار النفط العراقية بموافقة المالكي، مثل حقول خانقين ومجنون وفكة، وكذلك على عدد من المصارف العراقية استخدمتها للالتفاف على العقوبات، وأن قيام دولة شيعية في جنوب العراق سيمد حدود طهران، ويجعل منها قوة نفطية وازنة في السوق العالمية ويحفظ لها مصالحها الحيوية عند شط العرب!
ثالثا: يبقى الوسط العراقي الممتد من سهل حلب إلى نينوى مرورا بالأنبار جنوبا كدولة لـ«داعش» تتغاضى عنها وتشجعها ضمنا كل من أميركا وإيران رغم كل ما قيل ويقال، وتكون مهمتها الأساسية إشعال «الفوضى الخلاقة»؛ أولا: في الأردن لحل قضية فلسطين عبر التوطين البديل، وثانيا: في الخليج، بهدف إبقاء جذوة الصراع المذهبي ملتهبة، فتفرض أميركا السعر المناسب للنفط وتحول المنطقة مصيدة دموية للمتطرفين!
المصدر: الشرق الأوسط