كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
زمان، عندما كنت شاباً، وما أحلى تلك الأيام، واظبت لنحو عامين، على صلاة الجمعة في مسجد العمودي بجدة بحي الخالدية، لا يزال المسجد الفسيح قائماً، ولكن لم يستطع أي إمام أن يعيد إليه تلك الأيام الخوالي، كان ذلك في أواخر الثمانينات، إمام المسجد هو الشيخ حسن أيوب رحمه الله، من الرعيل الأول لـ«الإخوان المسلمون»، كان متقدماً في السن وقتها ولكن بنشاط الشباب، ربما كان في أواخر السبعين وقتها ذلك أنه توفي بقريته بالمنوفية وقد ناهز التسعين عام 2006.
كان يصل المسجد ونحن معه مبكراً، يبدأ درسه الأول قبل الصلاة بساعتين في الفقه أو العقيدة أو السيرة، ذلك أنه عالم موسوعي، ثم ينهي الدرس قبل الصلاة بنحو النصف ساعة كأنه يريد من رواد المسجد أن ينشغلوا بتلاوة القرآن والتأمل والتسبيح، خطبة الجمعة كانت تستغرق على الأقل ساعة، ورغم طولها كانت ممتعة، ما جذب للمسجد مصلين يأتون من أطراف المدينة، ما حمل المحسن الكبير الذي بنى المسجد الشيخ أحمد العمودي على إضافة مساحة أكبر من مساحة المسجد وقد غطاها بمظلات.
خارج المسجد يتحول إلى سوق للكتب والأشرطة الإسلامية مع شتى السلع، كانت أياماً رائعة، كنت ألتقي خلال تلك الساعات بالمسجد أصدقاء، أذكر مرة أن نظمنا حملة لجمع تبرعات لأفغانستان فامتلأت الصناديق بالمال، وحدي عددت ما قيمته 80 ألف ريال كانت حصيلة صندوق واحد بين ما لا يقل عن 10 صناديق توزعت على أبواب المسجد، هذا غير التبرعات العينية التي امتلأت بها شاحنتان، لم يكن جمع التبرعات يومها منضبطاً مثل الآن، بعدما دخل التطرف على خط الدعوة فاختطفه وشوهه فاضطرت الحكومات إلى وضع ضوابط للتبرعات، لو لم يحصل ذلك لربما توسع العمل التطوعي في المملكة وغيرها ليكون نواة صلبة لمؤسسات المجتمع المدني.
في إحدى خطبه روى الشيخ قصة إسلام رائد الفضاء نيل أرمسترونج الذي توفي قبل أيام المزعومة والمثيرة أيضاً، إذ قيل إنه زار القاهرة فسمع آذاناً يصدح في سمائها بذلك الصوت الملائكي الجميل الذي يتميز به الآذان في مصر، فسأل ما هذا؟ فقيل له هذا آذان المسلمين، فقال قد سمعت هذا الصوت وأنا على سطح القمر فأسلم.
هلل من في المسجد استحساناً وإعجاباً بهذه القصة المعجزة، ولكني لم أصدق، كنت دوماً أحمل عقلاً ناقداً، لست مستعداً لتصديق كل ما أسمع، بعد الصلاة يبقى الشيخ حسن ليجيب عن أسئلة المصلين، نتحلق حوله لنستمع إلى درسه الأخير هذا الذي يأتي في صيغة فتاوى.
بقيت متململاً غير مصدق لقصة أرمسترونج وإسلامه، وهي قصة لا تزال رائجة ويمكن أن تجدها عزيزي القارئ ببحث سريع على الإنترنت «إسلام نيل أرمسترونج» بل ستجد أحدهم وقد صاغها في قصة «دعوية» مثيرة بتفاصيل محددة وهي بالطبع مجرد فبركة الإسلام في غنى عنها.
في الأسبوع التالي، كان الشيخ شجاعاً، أن وقف على المنبر وقال إن قصة أرمسترونج التي رواها الجمعة الفائتة غير صحيحة، ودعا المصلين أن يبلغوا الناس بذلك، وقال إن هذه القصص تنتشر عادة في زمن ضعف المسلمين فيلتمسون القوة في قصص خارقة للعادة.
تعلمت من الشيخ درساً استفدت منه كثيراً في حياتي، ألا أخجل من الاعتراف بالخطأ حتى على رؤوس الأشهاد.
بعد حرب الخليج غادرنا الشيخ واستقر في مسقط رأسه بالمنوفية واستمر بالتدريس والدعوة هناك حتى وفاته رحمه الله، له صفحة على الشبكة تضم كتبه ودروسه وخطبه الصوتية تستحق الزيارة.
المصدر: مجلة روتانا