كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
الحيادية أو “الموضوعية” هي القيمة الأكثر جدلا في الصحافة حول العالم، وهي القيمة الأساسية التي تدور حولها معظم أدبيات القيم المهنية في الإعلام. ورغم أن هناك دائما من يقول بأن الموضوعية مستحيلة، لأنها تتطلب مستوى نادرا بين البشر من الحيادية الكاملة، فإن هذا لم يثن الصحافة في الدول الديمقراطية من إلزام نفسها بأعلى مستوى “ممكن” من الحيادية، من حيث طرح الآراء المتعددة، والالتزام بالتعريفات العلمية، والاعتماد على الأرقام والحقائق في نقل المعلومات، ولكن هذه الحيادية جاء دائما من يقلل منها وينتقدها كما هي الحالة مع المفكر نعوم تشومسكي الذي طالما انتقد موضوعية الإعلام الأميركي.
التغيرات في السنوات الأخيرة، بما فيها التغيرات السياسية والتكنولوجية، فرضت تحولا جذريا في هذه المفاهيم، وهذا النقاش تجدد في الفترة الأخيرة بشكل واسع جدا مع نشر صحيفة الجارديان الشهيرة لأعمال جلين جرينوالد الصحفية (مع جون سنودن وغيره) والتي يبذل فيها جهدا خاصا لفضح وكالة الأمن القومي الأميركية (NSA) وجهاز الاستخبارات الأميركية (CIA)، بشكل رأى فيه كثير من الناقدين مخالفة للقيم الصحفية المهنية، لأن جرينوالد يتبنى أجندة علنية ضد السياسة الأميركية الخارجية واستراتيجياتها، مما يعني أن هذا سيؤثر على قدرته على تقديم تغطية محايدة للقضية.
طبعا هذا النقاش محدود جدا في العالم العربي إلا على الصعيد النظري، فالإعلام كان لفترة طويلة في معظم الدول العربية مؤسسات حكومية، وهو في كثير من الأحيان ما زال يعيش هذا الدور، وحتى تلك المؤسسات الإعلامية التي تتحدث عن الموضوعية (مثل قناة الجزيرة وغيرها)، اتضح لاحقا أنها أيضا أجندة سياسية هدفها جذب الجمهور، وهي السياسة التي يمكن التخلي عنها مباشرة متى ما اقتضى الأمر ذلك.
يمكن بناء على هذا النقاش تقسيم الصحفيين إلى أربعة أقسام:
1) صحفي موضوعي محايد، يحاول دائما أن يبتعد عن أن يكون له رأي شخصي أو أنشطة سياسية أو قضايا يدافع عنها، هدفه البحث عن الحقيقة، والدفاع عنها، ومقاومة أي عوامل خارجية تؤثر على هذا الهدف. هؤلاء يتناقصون مع الأيام، ويحمل رايتهم اليوم صحيفة نيويورك تايمز بشكل خاص مع عدد آخر من الصحف والمجلات حول العالم.
2) صحفي دعائي، وهذا يمثل الضد الأسود للصحفي المحايد، فهو يبذل كل جهده لـ”غسل دماغ” الجمهور بمعلومات خاطئة وتحوير كاذب للقضايا، وهدفه خدمة أجندة سياسية محددة، وهؤلاء يتناقصون أيضا، لأن الإعلام الجديد اليوم صار يعطي للجمهور وعيا ووصولا للمعلومات يصعب فيها كثيرا الضحك عليهم وإقناعهم. عربيا، هناك عدة حكومات ما زالت تؤمن بمبدأ “اكذب اكذب حتى يصدقك الجمهور” ولكنها محاولات فاشلة تنطلي فقط على الجهلة.
3) صحفي مزيف، فهو يدعي الموضوعية والحيادية، ويتحدث ليل نهار عن القيم المهنية، ولكنه يخطئ في تحقيقها كثيرا، أحيانا عن عمد، عندما يتخذ الموضوعية ستارا لحمايته، وأحيانا عن جهل، لأنه لم يتعلم القيم الصحفية الصحيحة. في هذا التصنيف يقع عدد كبير من المثقفين والمحللين والصحفيين العرب، مما يكون لدينا ظاهرة غير عادية من “التظاهر بالمهنية”..
4) صحفي ناشط، وهو صحفي يبحث عن المعلومة ويحاول كل جهده أن يكون صادقا وأن ينقل الحقيقة، ولكنه يظهر رأيه ويعلنه، ولا يدعي الحياد، وفي هذا التصنيف يدخل جرينوالد وعدد متزايد من الصحفيين الغربيين الذين يهاجمون الكيانات المؤسساتية في الغرب ليل نهار. عدد من الناقدين الغربيين يرى أن هذا هو نوع الصحافة الذي ينبغي أن ينتشر في عالمنا العربي، لأن لدينا قضايا كثيرة لا يمكن الوقوف معها على الحياد، ولكن تحتاج إلى إنسان عظيم، حتى يمكنه الجمع بين الصدق والدقة وبين الدفاع المستميت عن قضية ما.
الإعلان من جهته، يعشق الإعلام المحايد أو الذي يتظاهر بنجاح بالحياد، لأن الإعلان يريد أن يصل إلى مختلف فئات الجمهور، ولا يريد أن يكون جزءا من أجندة سياسية أيا كانت، وكان هذا التوجه عامل ضغط عبر العقود على الإعلام الغربي للالتزام بالموضوعية كقيمة مثالية لها.
بعض الجهات الإعلانية صار لها رأي مختلف، مع تصاعد الإعلام الرقمي، بطريقته الجديدة التي تمنح جماهير متنوعة للمعلن (لهذا حديث مفصل في مقال قادم)، فصارت تنظر لوسائل الإعلام “الناشطة” التي لديها أجندة معينة على أنها تساعد المعلن في الوصول لجمهور معين يصعب إيجاده بدقة مع وسائل الإعلام الموضوعية (مثلا في أميركا بعض المنتجات تريد الوصول للسود المتعصبين لأصولهم من خلال المواقع التي تدافع عن قضايا السود بشكل خاص).
هذا الاتجاه الثاني لدى المعلنين والذي لا يهتم بالموضوعية ما زال محدودا، مما يضع الصحفيين “الناشطين” في ورطة، وهذا هو سبب الاحتفاء الواسع بإعلان نيويورك تايمز الأسبوع الماضي عن تصاعد اشتراكاتها على الإنترنت بشكل أسرع من تصاعد الدخل الإعلاني، الذي ظهر من خلال عشرات المقالات عن التغير الجديد في الإعلام، وذلك لأن حلم الصحفيين في كل مكان أن تكون لهم علاقة مباشرة مع الجمهور، هم يكتبون دون أي ضغط خارجي، والجمهور يدفعون مقابل ذلك.
طبعا من ناحية اقتصادية، هذا حلم مثالي صعب التحقق، وإن كان العصر الرقمي يمنحه بارقة أمل..!
المصدر: الوطن أون لاين