لم يبهرني ما رأيت في اليابان قدر انبهاري بما رأيته في الصين قبل أسابيع قليلة. والسبب أنني توقعت ما رأيته في اليابان؛ هذه البلاد التي أدهشت العالم كله منذ عقود باقتصادها و صناعتها و سباقها مع الكبار. ما رأيته في زيارتي الأولى لليابان جاء تأكيداً لانطباعاتي المسبقة عنها. أما في الصين فما رأيته جاء عكس ما توقعته تماماً. أمة قررت أن تنهض و تتفوق. لكن من الظلم أن نتوقع أن تحقق الصين في سنوات قصيرة ما حققته اليابان بعد عقود طويلة من العمل و الكفاح.
قراءتي المبدئية للفوارق بين التجربتين – وهي انطباعات أسجلها عبر المشاهدة السريعة – أستطيع تلخيصها في تشبيه اليابان بثري يتعامل مع الثراء بعقلية صاحب العراقة في التجارة و الرخاء. لم أشاهد في طوكيو ما رأيته في بكين من استعراض واضح في العمران الشاهق و في انتشار أفخم و أغلى السيارات الأوروبية. الماركات العالمية الشهيرة تشاهدها في أغلب شوارع و ميادين بكين الرئيسية. لكأن بكين تشبه «مُحدث النعمة». و هذا لا ينتقص من التجربة الصينية و لا من إعجابي و انبهاري بما رأيته بنفسي في أكثر من مدينة صينية. بل هي «ظاهرة» متوقعة في بلاد تحولت سريعاً إلى الرأسمالية، تماماً كما حدث في روسيا حينما لبست ثوباً رأسمالياً بعدما رمت ثوبها الاشتراكي القديم.
المهم في التجربتين، اليابانية و الصينية، أن الإنسان هناك جاد في عمله واثق من مستقبله، مؤمن بقدرته على سباق الزمن نحو الأفضل. لم تؤثر «الطفرة» الباهرة سلباً في شخصية الياباني أو الصيني؛ في تهذيبه الشديد و هو يتعامل مع الناس من حوله. في اليابان، رأيت أناساً في قمة الأدب و التواضع و التهذيب. أمس في «مترو» طوكيو لاحظت مراهقة تجلس وحيدة منشغلة بهاتفها و موسيقاها. و ما أن رأت سيدة كبيرة تبحث عن مقعد حتى نهضت سريعاً تاركة مقعدها للسيدة العجوز. شاهدت التواضع و الاحترام لدى كل ياباني رأيته في طوكيو، من ولي عهد اليابان إلى المراهقة في قاطرة المترو. الشعوب لا تتفوق فقط باقتصادها و صناعتها و جيوشها. إنها بأخلاقها أيضاً تتفوق و تحافظ على تميزها.
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٣١٦) صفحة (٢٨) بتاريخ (١٥-١٠-٢٠١٢)