جمال الشحي
جمال الشحي
كاتب و ناشر من دولة الإمارات

الطبقية التي لا نعلنها

آراء

خاص لـ هات بوست:

     في أحد المطاعم الفاخرة، رأيت رجلًا يتحدث مع النادل. لم يكن يصرخ، ولم يكن فظًا. لكن كان هناك شيء في طريقته: مسافة غير مرئية، نبرة تحمل تعليمات لا حوارًا، ونظرة تمر عبر الإنسان دون أن تراه. ثم أدركت أنني أفعل الشيء نفسه مع الآخرين. أحيانًا، لا أشعر برغبة في الحديث مع بعض من يعملون معي، كأن الوظيفة تكفي لتعريفهم. أتعامل باحترام، لكن دون فضول حقيقي، ودون محاولة لرؤيتهم خارج إطار العمل. وحين يخبرني أحد الموظفين أن له طفلًا لم يره منذ سنتين، أومئ برأسي بلطف، ثم أعود لهاتفي. لا قسوة في المشهد، فقط تجاهل مهذّب. هذه هي الطبقية التي لا نعلنها.

     الطبقية ليست نظامًا اقتصاديًا فقط، بل طريقة نتعامل بها مع عالم معقّد. في مجتمعاتنا، نعيش وسط تراتبيات تضع البشر في خانات شبه ثابتة بناءً على أصولهم، لهجاتهم، أو مهنهم. هذا التعقيد يرهقنا، فنختصر ونبسّط. نضع كل إنسان في خانة جاهزة تريحنا من عناء رؤيته كاملًا. صاحب “الأصل” ينظر لابن المدينة، وابن المدينة للقادم من الأرياف، والجميع ينظرون للعمالة الأجنبية. سلسلة من الاستعلاء الهادئ لا تنتهي.

     الطبقية ظاهرة عالمية، موجودة في معظم المجتمعات. لكنها في بعض المجتمعات الغربية أقل حدّة في شكلها التقليدي، ليس لأن البشر هناك أفضل أخلاقيًا، بل لأن الفردانية خفّفت من ثقل التراتبية الموروثة. حين يُقاس الإنسان بإنجازه أكثر من أصله أو عائلته، تتراجع بعض أشكال الطبقية، دون أن تختفي تمامًا. أما في مجتمعاتنا، حيث الهوية الجماعية أقوى من الفردية، فالتراتبية تخلق ذهنية اجتماعية يصعب الفكاك منها. قد يستطيع الفرد بالتعليم أن يتجاوزها، لكن المجتمع ككل؟ الأمر أعقد بكثير.

     السؤال الذي لا أجرؤ على طرحه بسهولة: متى تعلمت أن أصنّف الناس؟ لا أتذكر، أو ربما لا أريد أن أتذكر. ربما الطبقية ليست درسًا نتعلمه بوعي، بل معرفة تتسلل مبكرًا عبر اللغة، في التحذيرات الأولى، وفي ما قيل لنا عن “الناس” قبل أن نعرفهم. لم يُقدَّم لي التصنيف كفكرة، بل كبديهة أعيش بها.

     والمفارقة أن الشعور بالتهميش لا يمنع ممارسة الطبقية، بل قد يعززها. أعرف صاحب محل صغير يشكو من تعامل الموظفين في البنك معه باستخفاف، كأنه أقل شأنًا من أصحاب الشركات الكبرى. لكنه في محله، يعامل عمّاله بالاستعلاء نفسه الذي يتلقاه. الألم لا يصنع التعاطف دائمًا، بل أحيانًا يبحث عن ضحية أدنى.

     والأسهل من التميّز الحقيقي؟ الاستعلاء. التميّز يحتاج جهدًا ومراجعة مستمرة، أما الاستعلاء فلا يحتاج شيئًا. مجرد شعور داخلي بالتفوّق يمنحك راحة فورية. ألاحظ هذا عند من يشعرون بالإحباط المهني: بدلًا من تطوير مهاراتهم، يحكمون على الآخرين بقسوة. لحظات من الاستعلاء الرخيص تخفف ثقل العجز. وأحيانًا، يتحول الاستعلاء إلى تنمّر. ليس التنمّر دائمًا عن قسوة، بل عن رغبة في إثبات الذات، شهوة حضور، وحاجة لأن أشعر أنني “موجود” من خلال جعل الآخر “أقل”.

     والخطر الأكبر أن الطبقية نادرًا ما تُقال. لا أحد يعترف بها. لا في اجتماعات العمل حيث نختار من نستمع إليه بناءً على لهجته، ولا في المقاهي حين ننتظر من النادل أن يفهم من نصف كلمة، ولا في البيت حيث نعامل العاملة المنزلية بلطف مشروط ومسافة ثابتة. نفعلها بهدوء: في النبرة، في المسافة، في من ندعوه ومن لا ندعوه. حتى في اللغة، حين نقول “ابن الناس”، أو نختزل إنسانًا في لقبه أو لهجته. الكلمات ليست بريئة أبدًا.

     والسؤال الذي يلحّ علي: ماذا أفقد حين لا أراجع أحكامي؟ المسألة لا تتعلق فقط بما يسببه الاستعلاء للآخرين، بل بما يفعله بي. في كل مرة أضع إنسانًا في خانة جاهزة، أغلق فرصة معرفته. وفي كل مرة أختصر شخصًا في لهجته، أضيّق حدود تجربتي. وحين أختار الاستعلاء بدلًا من العمل الحقيقي، أخسر فرصة للنمو. الطبقية ليست فقط ظلمًا للآخر، بل سجنًا للذات.

لا أدّعي أنني تحرّرت منها. ما زلت أمارسها، بوعي وبدون وعي. لكن ما يمكنني فعله هو الانتباه لتلك اللحظات التي أضع فيها المسافة، وأكتفي بالافتراض بدل المعرفة. البداية ليست في إلغاء الطبقية، وهو هدف بعيد، بل في شيء أبسط وأصعب في آن: أن نراها في أنفسنا، أولًا.