خاص لـ هات بوست:
عندما نتأمل فكرة “انقراض اللغة”، فإننا حينها نستحضر المشهد التاريخي للغاتٍ عظمى خبت أضواؤها وانطوت صفحاتها ، وأفلت تراكيبها، وفنيت معانيها مع انطواء حضاراتها، لغاتٌ كانت أسفار الحكمة أعظم مدوناتها، يُنسَج بها تاريخ الإنسان ومراحله، ثم تحولت إلى أثر أو بقايا كتابات على جدران صامتة لا تُبين، أو كان أقل أحوالها تداخلها مع لغات أخرى، أو ضياعها في جوف التاريخ، فلا باعث لها ولا مستذكر، ولا حارس أمين يُرجى ويُترقب، كُتب لها الضياع والأفول في خضمّ أطوار الحياة، وربما لم يعد لها أطلال يتغنّى بها المنشدون، أو يتباكى بجوارها المحبون، أو يندب عاثر حظها التائهون.
لكن السؤال الآن: هل يمكن أن تنقرض العربية أو هي عصيّة على ذلك؟.
الإجابة عن هذا السؤال ربما تحمل شجوناً وتداخلات تتجاوز حدود النفي السريع غير الواعي إلى فضاء أعمق من الفلسفة والتاريخ معًا، فالعربية ليست لغة عابرة حملتها الظروف ثم تركتها لتقاوم دون مُعين أو مُغيث، وليست مجرد وسيلة نفعية للاتصال يمكن أن تُستبدل بأخرى حين يمل منها المتحدثون، بل لغة انصهرت في وجدان أمة، وتشابكت مع هوية ملايين البشر، وتجلّت في أعظم نص عرفه التاريخ: القرآن الكريم، هذا الكتاب العظيم كفيل بأن يمنحها حصانة دائمة تحميها من الزوال وتكفكف هنّاتها عبر العصور، فاللغة التي ارتبطت بالوحي ليست مجرد أداة للتعبير أو نقل الأفكار أو ترجمة الأحاسيس أو تعليم القوانين اللغوية فحسب، بل أصبحت جزءًا من القداسة، وحاملاً للمعنى الأبدي الذي لا يمكن أن يفنى أو ينضب، وليس في حسبان البشر أو إمكانهم تجاهلها، أو الاستغناء عنها، أو استبدالها بلغة أخرى حين لا تضاهيها لغة، ولا تعادلها لهجة.
العربية لغة ذات طبيعة مختلفة عن اللغات الأخرى التي انقرضت، فسرّ بقائها يكمن في أنها تتجاوز الزمن، فهي ليست ابنة عصر بعينه، وليست لغة من بين لغات شتى لا خصيصة لها ولا سمة، وإنما وعاء خالد للمعنى، وفضاء كوني كُتب له الحضور الأبدي، والدوام الأزلي.. بين طيات تلك اللغة يكمن مفهوم (البقاء) في أسمى معانيه وتبعاته، في كل حقبة تاريخية نجدها قادرة على الانبعاث من جديد: فقد ازدهرت في العصور الإسلامية الأولى حين كانت لغة الفكر والعلوم والفلسفة، ثم عادت لتثبت حضورها في النهضة الحديثة، وها هي اليوم تواجه تحديات العولمة، لكنها لم تضعف أو تتراجع رغم تعرضها لعوامل (تعرية قاسية) و(تنصّل) و(تجاهل) من أبنائها، لأنها تمتلك طاقة داخلية خليقة بأن تستوعب وتتجدد، ولأن كل تركيب لغوي فيها ينطوي على عمق فلسفي موغل في (الـتأويل)، يتجاوز السطحي إلى الأعماق، ويختزن (بجدارة) ذاكرة (عابرة) تقرع أجراس التذكّر والحضور.
لكم أن تتخيلوا أن فكرة الانقراض مرتبطة بالضعف والعجز عن مواكبة التحولات، أما العربية -أيها السادة- فقد أظهرت قدرة عجيبة على التكيّف مع المستجدات، فهي لغةٌ تستوعب المصطلح العلمي، وتطوّع الكلمة لتخدم المعنى الجديد دون أن تفقد أصالتها، هذه الخاصية وحدها كفيلة بأن تجعلها لغةً دائمة النمو، أشبه بالشجرة التي قد تُجزّ بعض أغصانها لكنها سرعان ما تورق من جديد، وحين يُتوهَم أنها قاربت الاضمحلال أو الذبول، أو الاختلاط بلهجاتها، أو النسيان المتعمد تعود فتية كأحسن ما تكون روعة وإشراقاً ونبوغاً… إنّ بقاءها ليس خياراً بل ضرورة وجودية، إنها جذور ممتدة بامتداد عميق بل (سحيق أكثر ما يكون)، يصعب على الرياح العاتية أن تعبث بأوراقها، أو أن تُميل أغصانها، أو أن تُبهت ثراءها، أو أن تتركها في قاحلة أرض دون تعهد أو سقيا.. إن فكرة (الانقراض) ليست ضمن قاموس تلك اللغة، تتغير تضاريس المجرى.. لكنه لا ينضب ولا ينقطع، دائم العذوبة، ماؤها رقراق غير آسن، يتفيأ ظلالها كل متأمل متعطش إلى جمالها وروعتها، فأحسنوا إليها فإنها هويتكم المثلى….