كاتب كويتي
تنازعت آمال الشعوب العربية على امتداد القرن العشرين، وبخاصة بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، بين ثلاثة اتجاهات ومطامع: «الدولة الوطنية القطرية»، «الوحدة العربية»، «والجامعة أو الاتحاد الإسلامي»، وإعادة بناء الخلافة إن تيسر ذلك. وتحكمت هذه التطلعات «الثلاثية الأبعاد» بالفكر السياسي العربي السائد، وأثّرت بقوة في الثقافة السائدة والأحزاب والمفكرين والعقل السياسي العام للجمهور، إلى ستينيات القرن، عندما تراجعت الطموحات القومية بعد فشل الوحدة المصرية السورية (1958-1961)، وانتكاسة يونيو 1967، ورحيل عبدالناصر 1970، فتراجع التيار القومي لصالح التيار الديني من جانب، والواقعية السياسية من جانب آخر، وإن كانت المطالبة بعودة الخلافة غير مطروحة اليوم بشكل جاد حتى من قبل الإسلاميين وأحزابهم.
وفي مصر، حيث كان التيار القومي في أضعف حالاته مقارنة بالتيار الديني، وحيث شهدت البلاد انتشار دعوة «الإخوان المسلمين»، قدمت أفكار «حسن البنّا» إطاراً للبعض في فهم العلاقة بين الوطن، والوحدة العربية القومية، ووحدة الأمة الإسلامية. فالوطن «في عرف الإسلام يشمل القطر الخاص، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى، فكلها للمسلم وطن ودار، ثم يرقى إلى الدولة الإسلامية الأولى التي شادها الأسلاف بدمائهم ولاتزال آثارهم فيها، وكل هذه الأقاليم يُسأل المسلم عنها بين يدي الله إذا لم يعمل على استعادتها، ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعاً». وفي رسالة أخرى من رسائله يقول: «المصرية لها في دعوتنا مكانها ومنزلتها. إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض. ومصر بلد مؤمن تلقى الإسلام تلقياً كريماً وذاد عنه وردّ عنه العدوان وأخلص في اعتناقه، وهو لا يصلح إلا بالإسلام ولا يُداوى إلا بعقاقيره ولا يطب له إلا بعلاجه. والعروبة أو الجامعة العربية، لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز، فالعرب هم أمة الإسلام الأولى وشعبه المتخيَّر، ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها، وإن كل شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا ومن لباب وطننا. وبذلك نعلم أن هذه الشعوب الممتدة من خليج فارس إلى طنجة ومراكش على المحيط الأطلسي كلها عربية تجمعها العقيدة ويوحد بينها اللسان».
وبينما كان الإسلاميون والقوميون المتدينون من عموم العرب، يعطون الإسلام مكانة خاصة في مسعى توحيد العرب، كان المفكر القومي «ساطع الحصري» لا يرى في الدين عاملا في تحديد الهوية القومية للإنسان العربي، متأثراً في ذلك بالمدرسة الألمانية. فالأمة عنده تقوم على عاملي اللغة والتاريخ. يقول الحصري: «نعم، كان نشوء الأمة العربية، من الوجهة التاريخية، متصلاً اتصالاً وثيقاً بالإسلام، إلا أن العرب لا يشكلون جوهرياً أمة الإسلام. فهم يبقون عرباً حتى لو لم يبقوا مسلمين». وكان الحصري يرى في الشعور القومي ما يراه الإسلاميون في الدين، فالمجتمعات السياسية -في نظره- تنشأ عن ثلاث عواطف: عاطفة القومية، وعاطفة القومية الإقليمية، وعاطفة الولاء للدولة. لكن أهمها الأولى، إذ هي التي لعبت منذ بدء القرن التاسع عشر دوراً فعالا في خلق الوطنية وإنشاء الدول. وإذا كانت مشكلة الإسلاميين أن المسلمين يعتنقون ديناً واحداً، لكن أقطارهم مفرقة متباعدة، فإن مشكلة الحصري أن العرب أمة واحدة مفتتة الأوطان.
لقد انشغل العرب لفترة طويلة، ولايزالون، بتحديد ماهية «الأمة»، فجعلوها محور نقاشهم: هل هي جماعة الناس والشعوب التي تجمعهم جوامع اللغة والتاريخ، فتكون «الأمة العربية» هي التي تجمع العرب، أم أن الأمة المنشودة هي التي تقوم قبل كل شيء على الدين والرسالة الإسلامية، فتكون «جنسية المسلم عقيدته»، وتكون للرابطة الدينية الإسلامية الأولوية المطلقة على أي رابط قومي أو حتى وطني؟ أم أن شعوب العالم العربي بحاجة ماسة إلى تأجيل هذا الجدل كله، والالتفات إلى دولها وأوطانها القائمة، بما هي عليه من سلبيات وإيجابيات؟
لقد عرف العرب في تاريخهم الحديث والمعاصر ثلاثة تيارات رئيسية: التيار القومي، والتيار الإسلامي، والتيار الاشتراكي. كانت هذه التيارات واسعة الانتشار في مراحل مختلفة. كما نجحت في استقطاب الكثيرين وبخاصة من أبناء الطبقة الوسطى والمتعلمين. ورغم أن البعض وهبوا أوقاتهم ومصالحهم ومصائرهم لهذه التيارات، القومية والإسلامية والماركسية، فإنها جميعاً لم تنظر إلى أوطانها القُطْرية كأولوية، أي كوطن له مصالح وحدود ومطالب تنموية. وكانت القضية الأساسية للقوميين هي «الوحدة العربية»، بأي ثمن وبأي وسيلة بما في ذلك استخدام القوة إن لزم الأمر. وكانت الأولوية للإسلاميين استعادة دولة الخلافة أو بناء النظام الإسلامي وتطبيق الشريعة رضي من رضي وكره من كره. وكانت الأحزاب الشيوعية تأخذ في الاعتبار الأول دائماً الأهداف الأساسية للحركة الشيوعية العالمية، وإن اصطدمت بالواقع العربي.
كانت الأحزاب العربية القومية تملي رؤيتها وعقيدتها وشعاراتها على الناس دون الأخذ بالاعتبار مصالح دولهم وعلاقاتها الدولية وتوازناتها المحلية وتركيبة شعوبها وأقلياتها وغير ذلك. وكانت الأحزاب الشيوعية تحلل أوضاع العالم العربي من خلال النظرية الماركسية وصراع الطبقات ومصالح البروليتاريا. وكانت روابط العمل الإسلامي تعمل على نشر ثقافة عقائدية، وكثيراً ما كان «الإخوان المسلمون» أصحاب تأثير خارج بلدانهم فينقلون إلى جماعات «الإخوان» الناشئة في البلدان الأخرى خبراتهم وتجاربهم. وبالطبع، كانت نظرة أحزاب الإسلام السياسي نظرة أممية شمولية! يقول راشد الغنوشي، ضمن نقد ذاتي منشور عام 1989 في كتاب «الحوار القومي – الديني» ما يلي: «من الأخطاء الفكرية غلبة النزعة الأممية، والإسلام باعتباره أممياً فإن الإسلامي كثيراً ما ينسحب من واقعه ليغرق في هذه النظرة الأممية العامة، فهو يتعامل مع القضايا كلها بدرجة واحدة من الأهمية. ففلسطين قد تتساوى في اهتماماتنا مع أية قضية إسلامية أخرى خارج هذه الدائرة العربية القريبة، بل قد يهمل الإسلامي قضية في قُطره لحساب قضية أخرى في قُطر بعيد تبدو له ذات أهمية بحجة أن المسلمين إخوة، وأن الأمة الإسلامية أمة واحدة… فهذا النظر الأممي وإن يكن في أصله صحيحاً، لكنه لا يتساوق مع النظر الإسلامي الشامل الذي ينطلق من الواقع القريب». وعن صراع الإسلاميين مع القوميين، يقول منتقداً تياره الإسلامي: «خطأ آخر يتمثل في التعامل الحدي والرافض لفكرة العروبة، ويكاد بعضهم يُحرج من ذكرها في القرآن. والحمد لله أنها وردت مراراً في القرآن، الأمر الذي لا يترك مجالا لأحد للاستنكاف من اعتبار أن للعرب في أمة الإسلام مكانة متميزة طالما اعتبروا الإسلام رسالتهم الخالدة».
وفي القضايا الاجتماعية والتعليمية، يقرُّ «الغنوشي» بأخطاء الإسلاميين:
«لقد استحدث الفكر الإسلامي مشاكل أخرى مثل موضوع الاختلاط، فتعامل مع موضوع المرأة تعاملاً غير رشيد، إذ في كثير من الأحيان تعامل معه من موقع التراث ومن موقع رد الفعل على التمييع البورقيبي التغريبي للمرأة، في حين أنه -فيما أعلم- لم تعرف مشكلة اسمها الاختلاط في التراث الإسلامي».
لكن ماذا عن النقد الذاتي في صفوف القوميين والماركسيين وغيرهم؟ هذا ما يحتاج إلى مقالات أخرى!