رئيس مركز الأهرام للترجة والنشر ، حاصل على دكتوراة الفلسفة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة 1992
باستثناء شرق ووسط أوروبا في نهاية ثمانينيات، ومطلع تسعينيات القرن الماضي، لم تشهد منطقة في العالم تغيراً سريعاً وعميقاً في المعادلات السياسية والاستراتيجية كالذي يحدث في منطقة الشرق الأوسط الآن، لكن الفرق هو أن التغير الذي حدث في شرق ووسط أوروبا أفضى إلى أوضاع جديدة تنطوي على معادلات مختلفة في غضون سنوات قليلة، وبأقل الخسائر.
كما أن تلك الأوضاع التي أسفر عنها التغير صارت أفضل مما كان عليه الحال قبلها، رغم الخلاف بشأن تقييم آثارها على هيكل القوة في النظام العالمي.
لذلك لا يشبه ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط الآن ذلك التغير الأوروبي، إلا في سرعة معدلاته وعمق تحولاته.
وحتى على هذين الصعيدين، ما أبعدها المسافة بين معدلات تغير سريعة أدت إلى أوضاع جديدة في فترة قياسية، وأخرى يرتبط تسارعها بتعقيدات متزايدة وتوسع مستمر في رقعة الصراعات وتنامي المخاطر التي تهدد المنطقة عموماً، ودولها العربية خصوصاً.
وشتّان ما بين تغير عميق أنتج تحولاً تاريخياً غيَّر وجه الحياة، وليس فقط نظماً سياسية واجتماعية في شرق ووسط أوروبا، وآخر يرتبط عمقه بحدة الصراعات الداخلية المقترنة به في دول عدة، وتجعل الحياة فيها جحيماً، فضلاً عن آثارها الإقليمية المتزايدة، والأخطار التي تحملها.
أما الاختلاف الأكثر جوهرية، فهو في مستوى التطور الحضاري.
فكانت دول شرق ووسط أوروبا، كغيرها في القارة التي سبقت العالم كله إلى التقدم، قد تجاوزت المرحلة التي عانت فيها ويلات التطرف الديني والصراع المذهبي العنيف اللذين مازالا محرِّكين رئيسين للتغير في منطقة الشرق الأوسط.
لذلك، ليس عجيباً أن يبلغ الصراع في العراق المبلغ الذي وصله في الأسابيع الأخيرة، بل ربما تكون الدهشة التي أثارها في كثير من الأوساط الإقليمية والدولية هي نفسها التي تثير الاستغراب.
فقد هيأت السياسات الطائفية المذهبية الإقصائية خلال الأعوام الماضية أجواء مواتية لتصاعد الممارسات العنيفة للإرهاب الذي صار أكثر إرهاباً، وأتاحت له بيئة حاضنة في محافظات عانى معظم سكانها تمييزاً على الهوية يندر مثله في هذا العصر، ودفعت قطاعات متزايدة من الغاضبين بسبب هذا التمييز إلى حمل السلاح.
فليس بإمكان تنظيم متطرف يسمي نفسه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) أن يتصدر المشهد إلا في ظل سياسات تمييز مذهبي، وإقصاء سياسي شديدة التطرف بدورها من جانب حكومة موالية لإيران إلى حد يدفع بعض المراقبين لاعتبارها «ممثلة» لها في العراق.
لذلك ربما يبدو المشهد العراقي الآن بمثابة إعادة إنتاج لأحد جوانب الأزمة السورية، وهو التغذية المتبادلة بين سلطة متطرفة في غيها تلقى مساندة إيرانية كاملة وتنظيمات متطرفة في إرهابها، لكن في صورة أخرى بطبيعة الحال.
فالسياسات العراقية، كما السورية، التي تمارسها سلطة طاغية بمساندة دولة طامعة، توفر الظروف الملائمة لتصاعد الممارسات الإرهابية وتوسع مساحات سيطرتها ونفوذها.
كما أن هذه الممارسات التي تزداد تطرفاً، وتذهب كل يوم إلى آماد أبعد في أشكال الإرهاب وعنفه، توفر الذرائع التي تحتاجها، مثل تلك السلطة لمواصلة سياسات الطغيان، وتتيح لإيران المساندة لهذه السياسات مساحات أوسع للتحرك إقليمياً ودولياً، وارتداء مسوح مواجهة الإرهاب الذي تساهم في تناميه بصورة غير مباشرة بعد أن شاركت في دعمه مباشرة من قبل.
وكان معلوماً أن تفاهماً حدث لسنوات بين إيران ونظام بشار الأسد من جانب وتنظيم «القاعدة» من جانب ثان، لمواجهة القوات الأميركية في العراق، بعد غزوه عام 2003.
وبموجب ذلك التفاهم، تولى نظام الأسد تسهيل دخول مقاتلين تابعين لتنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين»، الذي تحول بعد ذلك إلى «الدولة الإسلامية في العراق»، ثم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، عبر الحدود السورية.
وساهمت إيران في تقديم دعم لوجستي واستخباراتي لتنظيم «القاعدة» في حينه، عبر تفاهم مباشر مع قيادته المركزية التي التزمت بعدم التعرض لأهداف ومواقع شيعية في العراق.
ويذكر المراقبون الخلاف الذي حدث حينئذ بسبب هذا التفاهم بين الظواهري والزرقاوي قبل مقتله عام 2006.
وهكذا، فرغم اختلاف المصالح الاستراتيجية، كانت هناك مساحة كبيرة للتفاهم التكتيكي بين ثلاثة أطراف سعت لإحباط المشروع الأميركي في العراق، ساهم كل منها بمقدار في إفشال العراق نفسه وتدهور أوضاعه، وصولاً للوضع الراهن الذي تعتبر هذه الأطراف أكثر الرابحين فيه.
فقد حقق الإرهاب، ممثلا بـ«داعش»، توسعاً لا سابق له في العراق، بعد أن كاد يلفظ أنفاسه عام 2006، لكن التوسع المتزايد لسياسات الطغيان المذهبي والسياسي، أعاد إليه الروح تدريجياً.
وأصبح لهذا التنظيم وجود ممتد للمرة الأولى عبر الحدود العراقية السورية على نحو يمثل تجسيداً للاسم الذي يحمله، ويمنح مقاتليه ثقة غير مسبوقة.
وينعم نظام الأسد الآن بتخفيف الضغط الدولي عليه، ويستعد لاستثمار الآثار المترتبة على تنامي نفوذ «داعش»، وما أحدثه من ارتباك في أوساط القوى المسلحة المناوئة له، وما قد يؤدي إليه من تغيير في معادلات الحرب الداخلية إذا اضطر هذا التنظيم لسحب بعض قواته في سوريا لكي تقاتل في العراق.
أما إيران، التي تطمح لأن تكون الرابح الأكبر، فتسعى إلى تدعيم التحسن الذي حدث في مركزها على المستوى الدولي منذ التوصل إلى اتفاق جنيف بشأن المفاوضات حول ملفها النووي مع دول (5+1)، واستثماره لتحقيق مزيد من المكاسب الإقليمية.
لذا كانت مراكز القوة في النظام الإيراني هي الأكثر سعادة بالصورة التي تصدرت الصفحات الأولى لعدد من أكبر الصحف العالمية يوم 16 يونيو الجاري، وهي صورة مسلحين من «داعش» ينفذون إعداماً جماعياً بحق جنود عراقيين تركهم قادتهم، وهربوا فوقعوا أسرى بين أيدي من لا يعرفون الرحمة، بعد أن كانوا أدوات لدى من لا يمثل العراق لهم إلا امتداداً لإيران، أو حديقة خلفية لها.
وإذا كان الشعب العراقي هو الخاسر الأكبر، مثله مثل غيره من الشعوب في البلاد التي تمزقها الصراعات، فخسارة العرب في مجملهم ودولهم الرئيسة ليست أقل بأي حال.
فقد وصل تهديد الإرهاب إلى ذروة لم يبلغها من قبل، ومازال قابلاً للتنامي، في الوقت الذي «تترجم» إيران الوضع المأساوي في العراق – كما فعلت مع مثله في سوريا- إلى مكاسب إقليمية لا تقل خطراً على العرب.
لذلك لم تكن الدول العربية الأساسية بحاجة إلى تحرك سريع لبلورة تصور مشترك لمواجهة هذا الخطر المزدوج مثلما هي الآن.
المصدر: الاتحاد