كاتب سعودي
مع ما يحدث في غزة هذه الأيام من بطش إسرائيلي فتاك طاول النساء والأطفال والشيوخ والمدارس والمستشفيات وحتى محطة الكهرباء بلا رحمة ولا إنسانية، يقف المرء مذهولاً وحائراً.. هل هذا هو قدرنا كعرب؟ في الوقت نفس ما الغريب فهذا المشهد تكرر كثيراً؟ السؤال لماذا لا ننتصر؟ كيف أصبحنا نرى عدد قتلانا المرتفع دليلاً على الصمود ونفخر به؟ ما الأسباب الحقيقية وراء هزائمنا المتتالية؟ هل سنعاني كل عامين من هذا القتل وإزهاق الأرواح البريئة؟ وهل هي فقط كل عامين أم كل عامين وعقد وعقدين؟ حسناً، إلى متى؟ ولماذا؟
نحن العرب كما هو واضح لم نتغير أبداً ولم نستوعب من التاريخ شيئاً. مازلنا نردد عبارات الماضي ونستخدم أسلحة الماضي وهي على كل حال مفردات وعبارات فقط. فعبارات «الصمود» و«التحدي» و«تلقين العدو الدروس» و«محاربة الرجعية» و«الجهاد في سبيل الله» هي ما نكرره في كل وقت وهي مؤشرات النصر لدينا، وكأن العالم يسير على هوانا ويحتكم لعواطفنا. منذ نهاية حرب ٤٨ ونحن في صراع ليس مع إسرائيل فقط بل مع أنفسنا في الواقع. أتت ثورة ٢٣ حزيران (يوليو) عام ٥2 وركز فيها عبدالناصر – رحمه الله – على مناوشة أشقائه العرب «الرجعيين». غامر في اليمن وعاد بخفي حنين. ثم غامر في سيناء وحدثت النكسة الكبرى وضاعت سيناء والضفة والجولان وشيء من لبنان. لكن الذي ضاع حقيقة هو الأمل، وذلك الشعور الجارف لدى البسطاء بالقوة والعزيمة والنصر الوشيك مع سماع كل خطبة لعبدالناصر الذي كان يمثل حينها رمز «القومية العربية». كان يفترض بعد تلك الهزيمة الكبرى أن نتوقف عن الانسياق خلف «الكلام» والخطب الرنانة ونبحث عن الجذور الحقيقية للمشكلة التي نعاني منها.
لكن الدراما القبيحة الدموية تستمر، إذ جاءت بعد ذلك حرب أيلول الأسود في الأردن عندما بدأت سطوة الفلسطينيين على البلاد، الأمر الذي دفع الملك حسين إلى مواجهتهم بالقوة. مات من الفلسطينيين في تلك الأحداث أكثر من 4 آلاف برصاص الجيش الأردني قبل أن تنتهي الحرب بمغادرة عرفات ومقاتليه الأردن إلى لبنان. كادت هذه الحرب أن تشعل فتيل حرب أخرى بين سورية والأردن عندما تدخل الجيش السوري لحماية الفلسطينيين. قاد تلك المهادنة عبدالناصر وكانت آخر ما قام به من جهد للفلسطينيين قبيل وفاته. في عهد السادات وحتى عندما تجاوزت قوات مصر القناة وخط بارليف في حرب أكتوبر وأوشكت قوات إسرائيل على الاستسلام، فأتت القوات الأميركية عبر واحد من أعظم الجسور الجوية لنجدة جيش إسرائيل المنهار، كان ذلك القرار في عهد الرئيس نيكسون. وبفضل الأقمار الصناعية الغربية والصور التي تلتقطها من علو شاهق تم الالتفاف على فرقة الجيش الثالث المصري عبر ثغرة الدفرسوار. انتهت الحرب بهندسة صاغها كيسينجر لمصلحة إسرائيل على رغم وقوف كل العرب مع تلك الحرب بما في ذلك قرار الملك فيصل رحمه الله بوقف ضخ النفط إلى الولايات المتحدة الأميركية. وتحول التفوق الذي ظننا أنه نصر إلى لا شيء.
عادت سيناء إلى مصر لكن ليس بالسلاح بل بدهاء كبير من الراحل أنور السادات رحمه الله في نهاية السبعينات. حدث ذلك في مقابل الاعتراف بإسرائيل وتجنب الحرب بين الطرفين. الأردن هو الآخر عقد الاتفاقات مع إسرائيل وهدأت حدوده. أما مرتفعات الجولان فبقيت كما هي عليه الحال منذ 1976، وأصبحت ذريعة للأسد كونه أصبح يشكل الدولة الوحيدة المهمة لـ«المواجهة». لكن هذه المواجهة لم تحدث بين سورية وإسرائيل أبداً ولا حتى بعد أن تم ضم الجولان رسمياً لإسرائيل، ولا حتى بعد أن توغلت الطائرات الإسرائيلية داخل سورية ودمرت مفاعلاتها النووية. في لبنان أدت النزاعات بين المخيمات الفلسطينية إلى تلك الحرب الأهلية المدمرة التي لم ينهيها إلا مؤتمر الطائف برعاية الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله -. كل ذلك إضافة إلى تهور صدام واحتلاله الكويت ثم طرده منها بالقوة الضاربة التي أعادت العراق إلى الوراء لعقود.
نعود إلى الأصل، وبعد كل هذه المعاناة ما الذي يمكن أن يفعله العرب مع إسرائيل عسكرياً. أتساءل واضعاً في الاعتبار تقدم إسرائيل الهائل تكنولوجياً وخصوصاً في القوة الجوية الضاربة إضافة إلى سلاح إسرائيل النووي كما هو معروف. ما الذي نملكه في مقابل كل ذلك، أترك الإجابة لكم.
سيأتي بعض المزايدون بالطبع ويقولون نملك «الحق» و«الإرادة» و«الشهادة». وسيرددون الآية الكريمة: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله». لكنهم يتجاهلون حقيقة أن الذي أنزل تلك الآية سبحانه وتعالى قال أيضاً: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة». وقال في آية أخرى «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة». ثم إنني أتساءل هل كانت معاني الآية الأولى غائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أمر بحفر الخندق حول المدينة درءاً للهزيمة المتوقعة وحفظاً لأرواح المسلمين عندما علم بغدر اليهود وتجييشهم لبعض القبائل العربية لغزو المدينة المنورة؟ حفر الخندق عليه الصلاة والسلام لعلمه بضخامة الجيوش المقابلة. لم يخطب ويجيش إخوانه المسلمين ويدفعهم إلى مواجهة هو يعلم أنها غير متكافئة. لم يختر أن يقيم في مكان خارج المواجهة ليعطي الأوامر بالقتل وهو يحتسي الفطور والغداء والعشاء والخدم يحومون حوله في فنادق الخمسة نجوم. أنا هنا أقارن مع يقيني بعدم وجود المقارنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين أحد من البشر. ماذا عن عمر بن الخطاب عندما رفض توسلات معاوية بدخول البحر؟ هل كان رضي الله عنه «انبطاحياً» كما يقال اليوم عن أي صوت ينادي بالتهدئة وتأجيل المواجهة أم كان حريصاً على سلامة رجاله؟
قصتنا دراما حزينة في كل فروعها. رفضنا قرار التقسيم في ٤٨ بعد هزيمتنا وانهزمنا ثانية في ٦٧ ورفضنا السلام. تقدم الملك فهد رحمه الله بأول مبادرة عربية للسلام في مؤتمر فاس في ٨٢ ولم يتفق العرب على التوحد خلف موقف محدد. تجدد طرح المبادرة في بيروت على لسان الملك عبدالله في عام ٢٠٠٢ وعندما بدا وكأننا سنتفق رفضتها إسرائيل هذه المرة. بدايات رفضنا كعرب كانت لأسباب قومية في ٤٨ و٦٧ وعوامل الرفض الحديثة لأسباب آيديولوجية بعد بروز العمل الجهادي الذي ملأ فراغ غياب القومية وما صاحبه من «غزوات» و«كرامات» في عدة أماكن حول العالم.
فعلنا كل شيء ما عدا شيئاً واحداً وأساسياً. ذلك هو تطوير العقلية العربية ونسف الأساطير الباهتة واللجوء للعلوم والنهضة والبناء أولاً. فعلنا كل شيء ما عدا الوقوف والتأمل في حالنا. كيف يغيب عن عقولنا أن الجهل والضعف والهوان ضارب في الجذور وأن اعتمادنا على الأجنبي يسري في كل شيء في حياتنا. هل لأمة كهذه أن تطمح بتحرير الأرض؟ تذكروا أننا نستورد كل شيء نحتاجه من أعواد الأسنان إلى الطائرات والمعدات الطبية والعقاقير واللباس والأحذية. بعض العرب يملك ثروات نفطية ومعدنية ما جعل شعوب هذه الأقطار تحيا في رغد من العيش والرفاهية. البعض الآخر يئن تحت الفقر والجهل والتعنت.
قراءتي أن حالنا المأسوية هذه مستمرة طالما أننا نسير في بحور الوهم وترتفع أصواتنا ونظن بأننا أقوياء بتغريدة من فلان أو خطبة من آخر. المؤسف أن هذه المعاناة ستطاول أجيالاً عدة في المستقبل. التغيير لن يحدث إلا عندما نستيقظ ونعيد ترتيب الأولويات من جديد وهذا أمر مشكوك كثيراً بحدوثه في المستقبل المنظور.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Fahad-Al-Dgheter/3929670