العشق بوصفه تفكيرًا: قراءة في جدلية المعنى الشعري عند بدر بن عبد المحسن

آراء

خاص لـ هات بوست:

       ليس الشعر عند الأمير بدر بن عبد المحسن تعبيرًا عن العاطفة، بل تفكيرٌ بالعاطفة، واستنطاقٌ للوجود من داخل اللغة، في شعره تداخل بين حدود الحس والعقل، ليولد المعنى العميق من التوتر بينهما، فقصيدته لا تبحث عن الجمال بوصفه زينةً للقول، بل عن الحقيقة بوصفها جوهر الوجد، في شعره تتقاطع الأسئلة الكبرى: من أين يأتي المعنى؟ وما جوهر العشق؟ .

      يكتب البدر من أعماق الفكر والوجدان معًا، من منطقةٍ مشتعلةٍ يتداخل فيها الحسّ بالحدس، والحنين بالوعي، إنّه لا يصف الواقع، بل يعيد بناءه لغويًّا، كما لو أنّ القصيدة مختبرٌ أنطولوجيّ يعيد تعريف الإنسان في مواجهة ذاته والآخر والمطلق، ومن -هنا- تتولّد جدليته الشعرية: إن العشق ليس شعورًا، بل طريقة في الوجود ورؤية فلسفية، وأن اللغة ليست وسيلة، بل كينونة تتفكّر بذاتها.

     إن الذات في شعر البدر ليست مركزًا مغلقاً، بل كائنٌ مفتوح على العالم، إنّها ذاتٌ تُعرّف نفسها من خلال علاقتها بالوجود، لا من خلال انعكاسها عليه، ولهذا لا يظهر الإنسان في شعره بوصفه متكلّماً فحسب، بل بوصفه كائنًا يتأمّل وجوده في فضاءٍ من الأسئلة، وبهذا يقرب شعره من التصور الوجودي الذي ينطلق من أن القلق شرط الوعي بالحرية والاختيار.

      وحين يتحدث البدر عن (الوقت) و(المكان)، ويرددهما كثيراً في أشعاره، ويُدخلنا في حيرة فهم الرمز الشعري، وإدراك بواطن رؤيته نستلهم من مضامينه أن الزمان لا يعني بالضرورة عنده إطار الحياة، بل معضلة فلسفية تُعيد الذات تأويلها شعرياً في كل لحظة، ومن ثَمّ تتحول قصيدته إلى كيان (مطلق) يُفكر، وثبت نجاحه في هذا التوجه الملهم، لأنه استطاع بقدرته الشعرية، وامتلاء فنه بالمعنى أن يفهم حاجة المتلقي إلى التميز، من خلال تبني (عشق تفكيري) مختلف أراد من خلاله تجميل الواقع بدلاً من تغييره.

      وتسكن في شعره نبرة (القلق الخلّاق) -إن جاز الوصف-ذلك القلق الذي لا يدمّر الذات، بل يوقظها، ويجعلها ترى العالم من داخل هشاشتها، لا من علياء يقينها. ومن -هنا- تجاوز البدر مفهوم الشعر كأداءٍ لغوي إلى كونه حدثًا وجوديًا تتخلّق فيه الذات لحظة القول.

      وإن شئت فصنِّف العشق عنده تصنيفاً دراماتيكياً يتميز بكونه بنية هروب، بمعنى أن تكون خارجك دون أن تغادر نفسك، يتخفى من ورائها البدر من ثقل الواقع حيناً، وربما من استبداد المعنى نفسه، فالعشق عنده ليس مرادفاً للحضور، بل غياب (مركّز) غير أنه يفيض بالحنين ليشكّل انفعالاً شعورياً (أنيقاً)، إنّ البدر يسكن اللغة وتحيطه، ولذا جعل المعاني تهتزّ اهتزازاً دائماً لتتشكل لغته كيفما أراد، وأينما حلّ، وليحقق هدفاً شعرياً يرتمي بين جنباته، يشي بأن المعنى عند البدر لا يُولد في لحظة الامتلاك، بل في لحظات الفقد، مما انعكس أثره في توهج لغته، وبحثه فيما وراء المألوف.

      في تجربة بدر بن عبد المحسن الشعرية، اللغة عنده ليست أداةً تابعة للفكر، بل كائنٌ يفكّر، وصوتٌ يتجاوز القواعد نحو المعنى، فهو يكتب بلغةٍ تمزج الفصيح بالعامي، ليصل إلى فضاء التيه، ويخلق بذلك فضاءً ثالثًا بين اللسان المعياري والوجدان الشعبي، بين التجريد والتجسيد، بين النغمة والفكرة، إنه يمارس نوعاً من (اللغة الحالمة) التي تفتح أمام الوعي فضاءً جديداً للكينونة.. إنه فضاء لا يمكن وصفه، بل (تخيّله) من خلال انفعالات اللغة، وتأويل الوجود، وتحول الشعر إلى نوع من التفكير العميق، والتأمل الفلسفي، ولذا رفضت لغة البدر مبدأ الثبات، لأنها لا تسكن في قاموسٍ مغلق، بل في طاقةٍ رمزية مفتوحة، إنها بيت الوجود على حد تعبير مارتن هايدغر، انطلاقاً من كون كلماته تؤسس لحالةٍ معرفية يتماهى فيها الحدّ الفاصل بين الحلم والوعي، كأن اللغة نفسها تفكّر في يقظتها ومنامها.

       و-هنا- تتجلّى جدلية اللغة والمعنى: المعنى لا يُنحت من الخارج، بل يتشكّل داخل اللغة، ضمن صراعها بين القول والصمت بوصفه أصل المعنى، بين الانكشاف والإخفاء، فاللغة عند البدر ليست وسيلةً لتسمية الأشياء، بل هي التي تُوجدها، إنها تمارس فعل الخلق الشعري كما تمارسه الفلسفة في مستوى الفكر، لتجعل من الكلمة تجربة وعيٍ لا تقل عمقًا عن السؤال الوجودي نفسه، وما يتلبسها من طاقة تأويلية وثراء دلالي.

       إنّ الشعر في حضرة البدر تجاوز حدوده التاريخية والجمالية إلى أفقٍ فلسفيٍّ تتكثف فيه أسئلة الإنسان: عن ذاته، وعن لغته، وعن معنى وجوده، وحوّل القصيدة من غناءٍ للعاطفة إلى تأمل عميق…لقد كتب البدر-رحمه الله- شعراً حكيماً بريشة فيلسوف فنان، إنه شعرٌ لا يُقرأ، بل يُعاش.