العلم أولاً

آراء

خاص لـ هات بوست:

هل سمعتم ب “إراتوستينس القوريني”؟ قرأت عنه مؤخراً، وفق “ويكيبيديا” هو عالم رياضيات وجغرافيا يوناني الأصل، ولد عام 276 قبل الميلاد أي منذ ما يقارب 2300 عام، كان كبير أمناء مكتبة الاسكندرية، واشتهر بأنه أول من توصل لحساب محيط الكرة الأرضية، عبر ملاحظة أن الأعمدة في أسوان ليس لها ظل وقت الظهيرة عند الانقلاب الصيفي، بينما ذات الأعمدة في الاسكندرية لها ظل في الزمان نفسه، فاستنتج أن الأرض كروية واستطاع من خلال قياس طول الظل وطول المسافة بين الاسكندرية وأسوان الوصول لحساب محيط الأرض.

وفيما كان رائد الفضاء الإماراتي “سلطان النيادي” يتحدث للصحفيين عن رحلته إلى الفضاء والتجارب التي شارك بها في مجالات علمية مختلفة، ورؤيته للكرة الأرضية من الفضاء والصور التي التقطها وقام بمشاركتها للمتابعين أثناء رحلته، كان هناك من يعتبر أن كل هذا الكلام غير صحيح والأرض مسطحة.

يبدو من السذاجة بمكان أن نقف عند موضوع كروية الأرض، لكن ما هو مفاجىء عدد الناس المقتنعين بأن الأرض مسطحة، وأن كل ما يثبت عكس ذلك يدخل ضمن نظرية المؤامرة، من مجهولين لغاية في نفس يعقوب. وينتشر هؤلاء في أرجاء العالم، ولا يقتصر وجودهم على بلد أو دين أو طائفة، وكل ذلك يبقى مقبولاً، فالإنسان حر بطريقة تفكيره طالما أنها لا تؤذي أحداً، إنما أن يكون مسلماً ويتذرع بآيات كتاب الله ليثبت نظريته فالأمر يحتاج لبعض الاعتراض.

لست هنا بصدد البحث في التنزيل الحكيم عما يؤكد كروية الأرض، رغم وجود آيات واضحة تفيد المعنى، إنما هو بالنسبة لي كتاب مقدس {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت 42)، أؤمن بكل ما جاء به، وهو ليس كتاب فيزياء أو علوم أو تاريخ، وليس كتاب إعجاز علمي، وإن وجدنا فيه تعارضاً مع العلم أو الحقائق التاريخية المثبتة فمعنى ذلك أن فهمنا له ما زال قاصراً، وعلينا إعادة القراءة وفق أدوات معرفية مختلفة، أما أن أضعه بمسابقة مع العلم وفق قراءة ارتكزت على معطيات قرون ماضية فهذا رهان خاسر لحاملي تلك الراية، وحاشا للكتاب أن يخسر، على الأقل بالنسبة للمؤمنين به، ومن يقرأه بتمعن يرى أن هذا الكتاب يتسم بصفة “ثبات النص وحركة المحتوى”* بحيث تتغير آلية الفهم وفق تطور الإنسانية على المستوى اللغوي والعلمي والتاريخي، مما يجعله صالح لكل زمان ومكان.

وفهم آيات الكتاب على نحو غير منطقي يظهر أيضاً عند وقوع الكوارث الطبيعية، وللأسف تكررت في الآونة الآخيرة وتكررت معها التكهنات، لتتمخض عن استنتاجات مفادها أن الله يعاقب هؤلاء الضحايا، ليدفعوا ثمن تراجع الإيمان أوانتشار الفواحش أواختفاء رجل دين يوماً ما، أو كل هذه الأسباب معاً، ضاربين عرض الحائط بكل البينات العلمية والحيثيات المقدمة.

ورغم أن هناك الكثير من الظواهر الطبيعية التي ما تزال عصية على التوقع كالزلازل وشدة الأعاصير وبعض الفيضانات، إلا أنه من سوء الظن بالله وبرحمته اعتبارها عقاباً لخلقه، لا سيما أن أغلب الضحايا هم من الفقراء والمساكين الذين لا حول لهم ولا قوة، وإلا ما تأثرت بيوتهم بهكذا حوادث.

ومن يقرأ كتاب الله يفهم أنه خلق الكون بدقة لا متناهية، وقدّر الليل والنهار والفصول ودوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وفق قوانين معينة، تنتج عنها العوامل الجوية المختلفة، وخلق الإنسان وسخر له ما في الكون لخدمته، على أن يفهم مفاتيحه، ويبدو أن هذا الإنسان أساء استخدام الموارد، مما أدى إلى بدء ظهور خلل هنا وهناك، وكل المعطيات التي يقدمها علماء الطبيعة والمناخ تنذر بذلك. وتتضافر العوامل من تقصير لدى الحكومات إلى حروب أهلية لتجعل من الأوضاع في مناطق معينة غاية في الصعوبة، فتأتي المصيبة دون أن تحابي أحداً.

وإذ ننشد رحمة الله أنى كنا، إلا أنها تصبح الملاذ الوحيد لهؤلاء الضحايا المساكين، لتنقذ طفلاً هنا أو تنجي عائلة هناك، دون أن نعرف قانوناً لتلك الانتقائية سوى لطف منه سبحانه وتعالى.

فإذا أردنا تحقيق الغاية من خلقنا على هذه الأرض، كإنسان جعله الله خليفة بموجب نفخة الروح، علينا الحفاظ عليها من جهة، وسبر أغوار الكون من جهة أخرى، وفق أسس علمية دقيقة واضعين نصب أعيننا قوله تعالى {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(الزمر 9)، أما الفرضيات التي لا أساس لها فلا تليق بنا كمسلمين مؤمنين بخالق عظيم رؤوف رحيم.

*مصطلح “ثبات النص وحركة المحتوى” هو للدكتور الراحل محمد شحرور.