ابراهيم البدوي
ابراهيم البدوي
وزير المالية السوداني السابق وخبير اقتصادي

“الغذاء دواء”: من الإغاثة إلى الاستثمار في تعافي السودان بعد الحرب

آراء

لا تُقاس فداحة الحرب في السودان بعدد الضحايا أو حجم الدمار المادي وحده، بل بما تُخلّفه من آثار صامتة وعميقة على الإنسان نفسه، وعلى رأسها الجوع وسوء التغذية. فكما بيَّنا فى مقالنا “المجاعة الصامتة: كيف يدمّر الجوع مستقبل السودان قبل أن تنتهي الحرب؟”(1)، فإن الجوع ليس أزمة إنسانية طارئة فحسب، بل صدمة اقتصادية ممتدة تهدّد رأس المال البشري وتعيد إنتاج الفقر عبر الأجيال، وتضرب أسس التعافي والنمو حتى لو توقفت الحرب غداً. في هذا السياق، تبرز مبادرة “الغذاء دواء” بوصفها طرحاً عملياً ومبتكراً يعيد تعريف الاستجابة للجوع من الإغاثة قصيرة الأجل إلى سياسة وقائية – تنموية متكاملة.

فكرة المبادرة: حين يصبح الغذاء أداة علاج ووقاية

تقوم مبادرة “الغذاء دواء”، التي ابتدرها البروفيسور أبوبكر شداد (استشاري أمراض الجهاز الهضمي) والبروفيسور إبراهيم باني (أستاذ الصحة العامة)، على منهج جديد يدمج بين التغذية العلاجية والوقاية الصحية. فبدلاً من الفصل التقليدي بين الغذاء كاستجابة إنسانية، والدواء كخدمة صحية، تقترح المبادرة تقديم وجبات غذائية مدعّمة ومصمّمة طبياً، أو تدعيم مدخلات الغذاء الأساسية (مثل الدقيق)، بحيث تؤدي وظيفتين متلازمتين: سد الفجوة الغذائية، ومعالجة أو منع تفاقم الحالات المرضية المرتبطة بسوء التغذية.

ويستهدف البرنامج الفئات الأكثر هشاشة: أطفال المدارس والكتاتيب، كبار السن، النساء في مراحل الحمل والولادة، والنازحين في مناطق النزاع والريف. وهي الفئات ذاتها التي أظهر المقال المشار إليه أعلاه بأن تدهور أوضاعها الغذائية اليوم سيترجم غداً إلى خسائر دائمة في القدرات العقلية والجسدية والإنتاجية، أي إلى اقتصاد ضعيف ومجتمع منهك.

آليات التنفيذ: من المستشفى إلى المدرسة والمجتمع

تقترح المبادرة مسارين متكاملين للتدخل. الأول، عبر وحدات التغذية في المستشفيات والمراكز الصحية، حيث تُستخدم الوجبات المدعّمة والمكمّلات الغذائية كجزء من الخطة العلاجية، بما يقلل الاعتماد على العقاقير المكلفة ويعالج جذور المرض لا أعراضه فقط. والثاني، عبر تجمعات الفئات المستهدفة: المدارس، الكتاتيب، مراكز الإيواء، والمجتمعات الريفية، حيث تتحول الوجبة الغذائية إلى أداة صحة وتعليم في آن واحد، تعزز المواظبة المدرسية، وتحسن التركيز والتحصيل، وتحمي الأطفال من الانزلاق المبكر إلى دائرة المرض والتسرّب.

لماذا “الغذاء دواء” مهم لتعافي المجتمع؟

تتجاوز أهمية هذه المبادرة بعدها الصحي المباشر. فالفوائد المجتمعية متعددة: تحسين جودة الحياة، الوقاية من الأمراض المزمنة، رفع التحصيل الدراسي، وتعزيز الأمن الغذائي للفئات الهشة. لكنها، في جوهرها، استجابة مباشرة لما وصفناه في مقالنا المشار إليه بـ”القنبلة الاقتصادية المؤجلة” للجوع. فكل طفل يُنقَذ من سوء التغذية اليوم هو عامل أكثر إنتاجية غداً، وكل أسرة تُخفَّف عنها كلفة الدواء هي أسرة أقل فقراً وأكثر قدرة على الصمود. وبذلك، تسهم المبادرة في تقليل الأعباء على النظام الصحي المنهك، وتحويله تدريجياً من العلاج المكلف إلى الوقاية الفعّالة.

البعد الاقتصادي: استثمار في رأس المال البشري

من منظور اقتصادي كلي، تمثل مبادرة “الغذاء دواء” نموذجاً لما نادى به مقال “المجاعة الصامتة”التعامل مع التغذية بوصفها استثماراً سيادياً لا بنداً إغاثياً. فالمجتمع الأكثر صحة هو مجتمع أعلى إنتاجية، وقوة العمل السليمة هي الشرط الأول لجذب الاستثمار وإعادة تشغيل عجلة الاقتصاد بعد الحرب.

كما أن تقليل الحاجة إلى الأدوية يخفف العبء عن ميزانيات الأسر والدولة والمنظمات الإنسانية، ويحرر موارد نادرة يمكن توجيهها إلى التعليم وإعادة الإعمار.

نحو تعبئة مجتمعية أوسع

لا تكمن قيمة مبادرة “الغذاء دواء”في فكرتها المبتكرة فحسب، بل في قابليتها للتوسّع عبر شراكات مجتمعية واسعة وعابرة للتخصصات. ومن هنا تبدو فكرة هذا المقال، والدعوة إلى عرض المشروع في ندوة اسفيرية مفتوحة (ويبينار). وفى هذا السياق أدعو القائمين على أمر “منظمة الاستجابة للتنمية المستدامة: SuDRO” بتبنى هذه الدعوة. برأى أن هذه الندوة ستكون بالغة الأهمية لتنوير الرأي العام، ولإشراك ذوي الاختصاص من الأطباء، وخبراء التغذية، والاقتصاد والتنمية، ورجال الأعمال، ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية، للمساهمة في تطوير المبادرة وتمويلها وتنفيذها على نطاق أوسع.

وتتلاقى هذه الرؤية بصورة وثيقة مع منهج معهد الأرض (The Earth Institute) (2)، بجامعة كولمبيا الأمريكية المعروفة، الذي يقوم على مقاربة تنموية شاملة ترى أن القضايا المعاصرة – ومنها الجوع، وسوء التغذية، وانهيار النظم الصحية، وتدهور رأس المال البشري كما في الحالة السودانية – هي قضايا مركّبة ومتشابكة، لا يمكن فهمها أو معالجتها من خلال تخصص واحد أو قطاع منفرد. ومن ثمّ يدعو هذا المنهج إلى تكاملٍ منهجي بين العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية والهندسية، فيما يُعرف بعلم الاستدامة (Sustainability Science).

ينطلق هذا المنهج من فرضية أساسية مفادها أن مسارات التعافي والتنمية لا تتحدد بالسياسات الاقتصادية وحدها، بل تتشكّل أيضاً بعوامل صحية وتغذوية وبيئية ومناخية ومؤسسية واجتماعية متداخلة. لذلك، فإن مبادرة مثل “الغذاء دواء” لا تُفهم فقط كمشروع صحي أو غذائي، بل كنقطة التقاء بين الصحة العامة، والتغذية العلاجية، والتعليم، والسياسة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية وبناء رأس المال البشري.

ويركّز منهج معهد الأرض كذلك على الترجمة التطبيقية للمعرفة، أي تحويل البحث العلمي متعدد التخصصات إلى سياسات عامة قابلة للتنفيذ وبرامج عملية قائمة على الأدلة، مع إعطاء أولوية للعمل الميداني والشراكات مع المجتمعات المحلية والمؤسسات الوطنية والدولية، خاصة في البيئات الهشة الخارجة من النزاعات. وهو ما يجعل من “الغذاء دواء” نموذجاً عملياً لتجسيد هذا المنهج، عبر ربط التدخلات الغذائية بالصحة الوقائية، والتعليم، وخفض كلفة العلاج، وتعزيز الإنتاجية الاقتصادية في آن واحد.

وأخيراً، يؤكد هذا المنهج على أن العدالة الاجتماعية والاستدامة وجهان لعملة واحدة: فلا تعافٍ مستدام دون حماية الفئات الهشة، ولا بناء دولة قابلة للحياة دون الاستثمار في الإنسان بوصفه رأس المال الأهم وغير القابل للاستيراد. ومن هذا المنظور، فإن تعبئة المجتمع حول مبادرة “الغذاء دواء” ليست مجرد استجابة إنسانية ظرفية، بل خطوة تأسيسية في مسار إعادة بناء السودان على أسس صحية واقتصادية واجتماعية أكثر متانة بعد الحرب.

خاتمة: حين يبدأ إنقاذ الوطن من إنقاذ الطفل

تكشف تجربة السودان خلال هذه الحرب، بجلاءٍ مؤلم، أن الجوع وسوء التغذية ليسا مجرد نقص في الطعام، بل ظاهرة مركّبة تتشابك فيها الصحة والتعليم والاقتصاد والنسيج الاجتماعي، وتنعكس مباشرة على قدرة الدولة والمجتمع على التعافي. فالطفل الذي يجوع اليوم لا يواجه خطراً صحياً آنياً فحسب، بل يُهدَّد مستقبله التعليمي، وتُقوَّض إنتاجيته الاقتصادية لاحقاً، وتزداد هشاشة أسرته واعتمادها على الدعم. ومعالجة هذه الحلقات كلٌّ على حدة لا تفضي إلا إلى حلول مجتزأة، مرتفعة الكلفة، وقصيرة الأجل.

من هذا الفهم الشامل تنطلق مبادرة “الغذاء دواء”، باعتبارها استجابة ذكية لقضية معقّدة، تستند إلى فكرة محورية مفادها أن القضايا المعقّدة تتطلب حلولاً متكاملة تجمع بين:

الصحة العامة: الوقاية من الأمراض وتقليل الحاجة إلى العلاج الدوائي المكلف؛

التغذية: تصميم غذاء مدعّم يستجيب للاحتياجات الطبية والعمرية المختلفة؛

التعليم: تحسين التركيز والمواظبة والتحصيل عبر الوجبة المدرسية؛

الاقتصاد والتنمية: حماية رأس المال البشري ورفع الإنتاجية المستقبلية؛

السياسات الاجتماعية: استهداف الفئات الهشة وتقليل الفقر العابر للأجيال.

وتُجسّد مبادرة “الغذاء دواء” هذا المنهج عملياً، إذ تتعامل مع الغذاء بوصفه أداة علاج ووقاية واستثمار في آن واحد، لا مجرد استجابة إغاثية مؤقتة. فهي تقلل كلفة الأدوية على الأسر والدولة، وتخفف الضغط على النظام الصحي، وتحسّن فرص الأطفال في التعليم، وتضع أساساً لتعافٍ اقتصادي أكثر استدامة.

وتُظهر هذه المبادرة أن المقاربة متعددة التخصصات لا تعني تعقيد السياسات، بل تبسيطها عبر توحيد الهدف الجوهري: بناء إنسان سليم وقادر. ففي بلد يخرج من حرب مدمّرة مثل السودان، يصبح الانتقال من منطق “إطعام الجائع أو إمرأة حامل أو مرضع اليوم” إلى منطق “بناء الإنسان للغد” هو الحدّ الفاصل بين تعافٍ هشّ يُعيد إنتاج الأزمات، ونهضة حقيقية تؤسس لمستقبل مختلف.

وعليه، فإن إعادة إعمار السودان لا تبدأ بالطوب وحده، ولا تُقاس بحجم القروض والودائع، بل بسلامة الأجساد ونمو العقول. ومبادرة “الغذاء دواء” تُجسّد هذه القناعة في برنامج عملي يربط بين الأخلاق والسياسة والاقتصاد، ويحوّل حماية الطفل من فعل إحساني إلى خيار وطني عقلاني. فحين يصبح الغذاء دواءً، لا يكون إنقاذ الإنسان مجرد واجب أخلاقي، بل الخطوة الأولى والضرورية على طريق إنقاذ السودان نفسه.

—————————

أنظر مقال المجاعة الصامته فى هذا الرابط: https://alghadalsudani.com/19098/

أنظر موقع “معهد الأرض”: https://www.earth.columbia.edu/

المقال نقلا عن: الغد السوداني