في جلسة صفاء استذكر أحد الزملاء الصحافيين أخطاء البدايات في المهنة، فقال: أرسلتني المؤسسة الإعلامية التي أعمل بها لأغطي وقائع مؤتمر صحافي عالي المستوي في بلدي، وكنت وقتها حديث عهد بالمهنة، وفعلياً هذا أول مؤتمر صحافي أشارك في تغطيته، وهي المرة الأولى التي سأقف فيها أمام الجموع وأطرح سؤالاً على الضيف والمضيف وتصوّرني شاشات الفضائيات ببث مباشر. ويقول الزميل: كنت أعتقد أن التعريف بالمؤسسة التي تعمل بها ومن ثم طرح السؤال بحدّ ذاته أمر سهل يشبه «الكلاشيه» المتعارف عليه، ولم أكن أعرف أنه في بلاد الحريات الضيقة قد تتحول «الكلاشيه» إلى «كلاشنكوف».
يقول الزميل: بدأ المؤتمر الصحافي وبدأت عملية اختيار الأسئلة، رفعت يدي فأشار لي المسؤول الكبير (الضيف) بطرح السؤال، عرّفت بنفسي وبمؤسستي، وطرحت سؤالاً لم يعجب الضيف ولا المضيف، وتم تجاهل الإجابة عنه تماماً مع هزّة بالرأس دليل الاستنكار.. منذ تجهّم المسؤولين ومدير مؤسستي الذي كان حاضراً في الصفوف الأولى بات يتمّشى بين الكراسي ويتوّعدني بشكل متصاعد: «مخصوم منك راتب شهر يا..»، ثم عاد يتمشى ووجهه محمرّ والخوف والقلق يبدوان عليه، ثم قال: خصم؟؟ لا لا.. اعتبر حالك مفصول منذ اللحظة.. وتابع مسيره والمؤتمر الصحافي مازال منعقداً ثم وشوشني: حتى الفصل لن يكفيك، ستتحوّل بعون الله للمحاكمة بتهمة تعكير صفو العلاقات.. ويتابع الزميل: لا أدري ماذا جرى في المؤتمر، رجلاي كانتا تهتزّان بشكل سريع ونفسي مقبوض، وأحس باضطراب عام.. وما إن انتهى المؤتمر الصحافي حتى قفزت إلى المسؤول الكبير المضيف وطلبت منه أن يسامحني على السؤال أمام مدير المؤسسة الإعلامية، فقال: أبداً.. أنت ابني.. أرجوكم اهتموا بهذا الشاب فله مستقبل جيد.. عندها انفرجت أسارير مدير المؤسسة الإعلامية، وقال لي بفائض من المنّة: شايف كم هو «حنون»؟؟ لو كنت ببلاد برّة شو كان رح يصير فيك؟
**
في «بلاد برّة»، وتحديداً الجمعة الماضية انتشر فيديو بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي لمحلل سياسي كان ضيفاً على قناة «بي بي سي»، فاقتحمت غرفته طفلته الأولى لتفسد اللقاء المباشر، ثم يتبعها شقيقها في عربة الأطفال بعد أن فتح الباب بسهولة، ولم تنته هذه الكركبة بدخول الطفلين إلى غرفة البث المباشر في مكتب أبيهم، بل تزحلقت الأم وزحفت لجرّ الطفلين من غرفة أبيهما البرفيسور والمحلل السياسي الذي كان يتحدث لفضائية الـ«بي بي سي» بكل جدية.. رافق اللقاء بعض الحرج، ثم انتهى.. فصار حديث العالم.
الـ«بي بي سي» لم تعاتب الضيف ولم تلمه على الفوضى والمسخرة التي ظهرت على الهواء مباشرة.. بل تعاملت بكل مهنية مع ذلك، وأكملت اللقاء كأن شيئاً لم يكن.. وفوق كل هذا استضافته بعد يومين بحلقة منفصلة ودية ولطيفة برفقة عائلته هذه المرة ليتحدّثوا عمّا جرى في اللقاء المباشر وكيف استقبلوا ردود فعل الناس على ما جرى.. وهذه بحدّ ذاتها عبقرية مهنية غالباً لا نتقنها.. وهي أن تستغل اللامادة الصحافية لتعمل منها مادة صحافية… وأن تحوّل الأخطاء المهنية إلى تفوّق وارتقاء وتميّز.. الـ«بي بي سي» مدرسة حقيقية!
المصدر: الإمارات اليوم